يدلنا درس تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دخلوها على أن لغزواتهم مناحي مختلفة، أي يدلنا على أنهم إما أن يكونوا قد أغاروا عليها؛ ليستقروا بها نهائياً، وإما أن يكونوا قد اكتفوا بغزوهم الخاطف لها، فأما في الحالة الأولى فقد كان من سياستهم الثابتة أن يكونوا على وئام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم كما صنعوا في سورية ومصر وإسبانية، وذلك خلافاً لعادة جميع الفاتحين في زمانهم، وأما في الحالة الثانية فقد ساروا على سياسة كل فاتح، فعدوا البلاد التي أغاروا عليها كإيطالية، وفرنسة على الخصوص، من الفرائس وانتهبوا بسرعة ما وصلت إليه أيديهم منها، وخربوا فيها ما لم يقدروا على حملة غير مبالين بسكانها.
وسار العرب على ذينك النجدين في صقلية، فبما أن عدد من أغار منهم على صقلية وعلى قطعة من إيطالية كان قليلاً وقفوا عند حد الغزو المؤقت وما ينشأ عنه عادة من التخريب والنهب وقتل من يقاوم من الأهلين ثم العودة السريعة، ولما تكررت غزواتهم لتلك البلاد وأصابهم فيها من النجاح والتوفيق ما أصابهم رأوا أن يستقروا بها، وأن يحسنوا سياسة أهلها، ولما رسخت أقدامهم فيها كفوا عن عادة نهبها، وأنعموا عليها بنعم الحضارة، وكان لهم فيها مثل ما كان لهم في إسبانية من الأثر النافع البالغ.
ويمكننا، ببيان هذه الفروق الأساسية في سياسة العرب، إدراك تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولوا عليها، وإيضاح علة اختلاف سياسة العرب أنفسهم في البلدان المتجاورة.