ومسلمو إفريقية هم الذين غزوا صقلية وإيطالية، وأكثر هؤلاء المسلمين من البربر؛ لما كان من قلة عدد العرب في ذلك الدور، وهؤلاء البربر من أشد الشعوب التي دانت لشريعة الرسول بأساً، وأضعفهم تمدناً كما ذكرنا.
وأغار العرب على صقلية وجزر البحر المتوسط بضع مرات منذ القرن الأول من الهجرة، ولم يحاول العرب الاستيلاء على صقلية جدياً إلا في أوائل القرن الثالث من الهجرة حين استقل شمال إفريقية عن خلافة المشرق، وحين حدث ما شجعهم على ذلك.
وكانت جزيرة صقلية من أعمال حكومة بيزنطة، وكانت حكومة بيزنطة ترسل إليها حكاماً ليمارسوا السلطة فيها، ومما حدث أن عهد إلى أمير البحر أوفيميوس (فيمي) في الدفاع عنها، وأن علم أوفيميوس أن قيصر بيزنطة أمر بقتله، وأن قتل أوفيميوس حاكم صقلية ونصب نفسه أميراً عليها، وأن ثار أهلها عليه ففر إلى إفريقية طالباً حماية المسلمين، وأن عاد إلى صقلية مع جيش من المسلمين لم يلبث أن سار على حساب نفسه، فأتم فتح صقلية بدخوله بلرم بعد وقائع دامت بضع سنين (٢١٢ هـ/ ٢١٧ هـ).
ولم يقتصر العرب، بمقاتلتهم الروم، على غزو صقلية، فقد استولوا على جنوب إيطالية أيضاً، وبلغوا في تقدمهم ضواحي رومة، وأحرقوا كنيسة القديس بطرس وكنيسة القديس بولس اللتين كانتا قائمتين خارج أسوار رومة، ولم يرجعوا عنها إلا بعد أن وعدهم البابا يوحنا الثامن بدفع جزية إليهم، واستولى العرب على مدينة برنديزي الواقعة على شاطئ البحر الأدرياتي ومدينة تارانت، وأغاروا على دوكية بنيفنت، وصاروا سادة البحر المطلقين بفتحهم صقلية وأهم جزر إيطالية وقورسقة وقندية (الخندق) ومالطة وجميع جزر البحر المتوسط، ولم يسع البندقية إزاء ذلك إلا أن تعدل عن محاربتهم لطويل زمن.
والنورمان هم الذين قضوا على سلطان العرب السياسي في صقلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، وداوم العرب، بعد زوال سيادتهم، على القيام برسالتهم الثقافية فيها كبير وقت، وذلك أن ملوك النورمان، إذ كانوا من الذكاء ما يستطيعون أن يدركوا به تفوق العرب العظيم استندوا إلى العرب؛ فظل نفوذ أتباع الرسول في أيامهم بالغاً.
وإذ كان التاريخ النورمان صلة وثيقة بتاريخ العرب في صقلية رأيت أن أحدث عن وقائعهم بإيجاز لفهم تاريخ حضارة العرب فيها، ومن المفيد أيضاً أن أذكر أسلوب الحرب في ذلك الزمن، وأن أبين أعمال التخريب، التي لام مؤرخو اللاتين العرب عليها، هي مما كان يستبيحه مقاتلو جميع الأمم.