تختلف النُّظُم السياسية والاجتماعية، لأكثر الأمم التي يُعْنَى بها التاريخ، اختلافاً عظيماً بين أمة وأخرى، ويدل إنعام النظر على أن قيمة تلك النظم أمرٌ نسبيٌّ، فما صلح منها لأمة لا يصلح لأمة أخرى في الغالب.
وتحتاج تلك الحقيقة إلى برهان، ولا تُسِلِّم بها النفس حالاً، ويظهر العكس من الحقائق أول وهلة، أي أنه يُرَى وجوبُ اتخاذ النُّظم التي عُزِيت إليها عظمة إحدى الأمم مثالاً للاقتداء، وأن من الحكمة انتحالها وحملَ الناس عليها طوعاً أو كرهاً، وهذا ما اعتقده أقطاب السياسة والمؤرخون زمناً طويلاً، ولا يزال أكثرهم يراه.
واليوم فقط بدأنا نَعْلَم خطر ذلك الرأي، فقد أثبت البحث العميق في حياة الأمم، أن نُظُم الأمم عُنوان مشاعرها واحتياجاتها الموروثة التي هي وليدة ماضٍ طويل، وأنها لا تتبدل كما يشاء الإنسان، حقاً رَوَى المؤرخون وجود مشترعين، كموسى وليكورغ وسولون ونوما وغيرهم، فَرَضوا على أممهم شرائع ابتدعوها، ولكن الواقع غير ذلك، فلم يكن لمشترع مثلُ تلك القدرة التي لم تتفق لأقوى الفاتحين وأعنف الثورات إلا لوقت قصير، فإذا أكُرِهت أمة على قبول نظم تختلف عن نُظُمها كان ذلك من قبيل إرغام حيوان على تبديل وضعه الطبيعي حيناً من الزمن، وإذا ما زال عامل القهر عاد الماضي
إلى مجراه، وظهر أن الأمر لم يَعْدُ حدَّ تغيير بعض الكلمات.
وهنالك حوادث تاريخية كثيرة تظهر في بدء الأمر مناقضة لما تقدم، فيجب درسها درساً حقيقياً؛ لِيُرى زوالُ هذا التناقض، خذ العرب مثلاً تَرَهم قد فرضوا نُظُمهم على أمم مختلفة، ولكنك إذا ما بحثت في أمم آسية وإفريقية التي سارت على سُنَّة العرب