علمتَ أن النظم السابقة لأكثر هذه الأمم لا تختلف عن نُظُم العرب إلا قليلاً، وأنه إذا كان بينها وبين نُظُم العرب اختلاف في الأمور الجوهرية، كنظم البربر مثلاً، بدا لك ضعف أثر القرآن فيها، والعربُ، وهم أعقل من كثير من أقطاب السياسة المعاصرين، كانوا يعلمون جيداً أن النظم الواحدة لا تلائم جميع الشعوب، فكان من سياستهم أن يتركوا الأمم المغلوبة حرةً في المحافظة على قوانينها وعاداتها ومعتقداتها.
ولا تتبدل النظم، وهي عنوان احتياجات الأمة ومشاعرها التي نبتت فيها، إلا بِتَبَدُّل تلك الاحتياجات والمشاعر، وقد أثبت التاريخ أنها لا تتحول إلا بتعاقب الوراثة، ومن ثَمَّ ببطء عظيم، وقد اقتضى تحول البرابرة الذين قَضَوا على العالم الروماني إلى ما صاروا إليه في دور النهضة مرورَ القرون الوسطى التي دامت ألف سنة.
وتسيطر سُنَن تطور ذوات الحياة على تطور النظم الاجتماعية، وقد اكتسب، بتعاقب الأزمنة، بعضُ ذوات الحياة، التي كانت تعيش في البحر في الأدوار الجيولوجية، من الأعضاء ما تَمَكَّن به من العَيش في الهواء، وليس بعيداً الزمنُ الذي كان علماء الطبيعة يجهلون فيه تطور ذوات الحياة والحَلَقات التي تصل بين طرفيها، وليس بعيداً الزمن الذي كان علماء الطبيعة يعتقدون فيه أن قُدرة عُلْوِيَّة خَلَقت ذواتِ الحياة في أوقات مختلفة، فلما تقدم العلم أثبت أن هذه التحولات العظيمة لم تَحدث فجأةً، بل هي وليدة تطورات غير محسوسة اكتسبها كل جيل، وتراكمت بالوراثة في عدة قرون، وأسفرت عن تحولات عظيمة جداً.
ونَعُدُّ العِرق والبيئة وطرق المعايش والعوامل المختلفة، التي نرى الضرورة أوَّلَها وعزيمةَ الرجال أضعفها، أسباباً رئيسةً في نشوء النظم، والزمن وحده هو القادر على توطيدها، وإذا رأينا أمةً ذاتَ نُظُم واحدة منذ زمن طويل أيقنا بأن هذه النظم خير ما يلائمها، وإذا كانت الحرية أمراً طيباً لدى بعض الشعوب كانت صَرامة وليِّ الأمر المطلق أفضلَ للشعوب الأخرى، ولذا فإن من قِصَرِ النظر أن نَقِف عند حدِّ ثَقافتنا الاجتماعية التقليدية الخطرة، وأن نرى من الممكن تطبيقَ نُظُمٍ لاءَمت أمةً بتعاقب الأزمان على أمةٍ أخرى، وهذا لا يختلف كثيرًا عن محاولة حمل السمك على التنفس في الهواء بحجة أن
جميع الحيوانات العليا تتنفس في الهواء، فالسمك يموت حيث تحيا ذوات الثُّدِي.
وما تنشأ به نظم الأمم، وما تتحول به، من البطء العظيم يجعلنا لا نُبْصِر التحولات، على العموم، إلا إذا جَهَر بها مشترع عظيم، فنعزو إلى هذا المشترع وضع القوانين مع أنها وليدة ماضٍ طويل، وليس شأنُ المشترعين الحقيقي سوى إثباتهم، بما لهم من سلطان،