ولنتكلم الآن بإيجاز عن المباني المهمة التي تركها المسلمون في إسبانية، وسنتبع طريقتنا في نشر صور صادقة عنها نشراً يغنينا عن الوصف المفصل، وذلك على أن نعود إلى الكثير منها في الفصل الذي ندرس فيه تاريخ فن العمارة العربي.
[(٤ - ١) المباني العربية في قرطبة]
إن جامع قرطبة الشهير الذي بدأ عبد الرحمن بإنشائه في سنة ٧٨٠ م، والذي يعده علماء المسلمين قبلة أنظار المغرب، من أجمل المباني التي شادها العرب في إسبانية، قال كونده: بني ذلك المسجد الجامع في أواخر القرن الثامن من الميلاد بأمر عبد الرحمن الأول وإشرافه، وروي أن عبد الرحمن الأول هذا أراد أن يجعله مماثلاً لجامع دمشق على أوسع نطاق، ومذكراً الناس بفيض زخارفه، بعجائب هيكل سليمان القدسي المجيد الذي هدمه الرومان.
«وكان جامع قرطبة يفوق معابد الشرق قاطبة بعظمته وروعته، وترى ارتفاع مئذنته أربعين ذراعاً، وترى قبته الهيفاء تقوم على روافد من الخشب المحفور وتستند إلى ١٠٩٣ عموداً مصنوعاً من مختلف الرخام على شكل رقعة الشطرنج، فيتألف منها تسعة عشر صحناً واسعاً طولاً وثمانية وثلاثون صحناً ضيقاً عرضاً، وترى في وجهه الجنوبي المقابل للوادي الكبير تسعة عشر باباً مصفحاً بصفائح برونزية عجيبة الصنع خلا الباب المتوسط الذي كان مصفحاً بألواح من الذهب، وترى في كل من وجهة الشرقي الجانبي ووجهه الغربي الجانبي تسعة أبواب مشابهة لتلك الأبواب.»
ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أحدثه الإسبان فيه من التلف والفساد، ومع تلك الكنيسة الواسعة التي أقاموها فيه لتطهيره، ومما صنعه الإسبان أن كلسوا زخارف جدره وكتاباته، ونزعوا منه فسيفساء أرضه، وباعوا تحف سقفه الخشبية المحفورة المزوقة، فيجب على من يرغب في تمثل شيء مما كان عليه جامع قرطبة أن ينظر إلى محرابه الذي تفلت وحده من التخريب.
ويقوم سقف جامع قرطبة على أعمدة، ويتكون من اجتماع هذه الأعمدة صفوف من الصحون الكبيرة المتوازية المؤدية إلى باحته، وتتقاطع هذه الصحون وصحون أخرى كتقاطع الأضلاع الذي ينشأ عنه زوايا قائمة، ويتألف من مجموع تلك الأعمدة غابة من الرخام والطب والغرانيت، وتعلو تلك الأعمدة أقواس رائعة منضدة مصنوعة على شكل نعل الفرس.