ومما بلغ درجة الثبوت في أيامنا، كما يظهر، أن الأوربيين اقتبسوا فنَّ القافية من العرب، ودلَّت مباحث فياردو وغيره من الكتَّاب الكثيرين على هذا الأمر الذي كان الأسقُف هُويهِ قد بينه منذ زمن طويل.
ويُعزَى مصدرُ الشعر الإسباني والشعر البروفنسيِّ إلى ما كان لشعراء عرب الأندلس من التأثير، ويلوح لي هذا الرأيُ قويماً كالرأي السابق، ولكنَّ إيضاح الأسباب التي يُستند إليها في هذا يتطلب إفاضةً لا يحتملها صَدر هذا الكتاب.
[(٣ - ٢) الروايات والأقاصيص]
زاول العربُ جميعَ أنواع الأدب، فضلاً عن الشعر، ويُوجَدُ للعرب رواياتٌ في المخاطر والحبِّ والفروسية ... إلخ، وترى في روايات العرب، مع قلة اعتنائهم بنفسية الأشخاص، فوائدَ كبيرة لاشتمالها على ضروب المغامرات العجيبة، وجَمَّلَ العرب، بخيالهم الساطع، كل شيء لَمَسوه، وهم الذين لا نظير لهم في الفن.
والعرب هم الذين ابتدعوا روايات الفروسية، قال سيديُّو:«كان خيال الشعراء يتجلَّى في الروايات والأقاصيص، وكان أتباع محمد من أكابر المحدِّثين دائماً، وكانوا يجتمعون مساء تحت خيامهم؛ ليسمعوا بعض الأقاصيص العجيبة التي تتخللها الموسيقا والغناء كما في غَرْنَاطَة، ويُخبر ما في إسبانية من القصص المؤلفة من قطعٍ مترجمة، أو التي قُلِّد بها العرب، إخباراً صحيحاً عن الأعياد وألعاب الخواتم وصراع الثيران وحروب النصارى والمسلمين، والتفاخر ورقصِ الفرسان والتشبيب والغَزل ... وما إلى ذلك من الأمور التي اشتهر بها عرب الأندلس في أوربة.»
ومن أشهر أقاصيص العرب نذكر مقامات الحريري، ومقاماتِ الهمذانيِّ، وروايةَ ألف ليلة وليلة على الخصوص.
واشتهرت مقاماتُ الحريريِّ في الشرق بأَسره. ووُلِد الحريريُّ سنة ١٠٥٤ م، وتوفيَّ سنة ١١٢١ م في البصرة بعد أن ذاع صيتُه بأنه من علماء عصره، وتشتمل كلٌّ من مكتبة باريس الوطنية ومكتبة مسيو شِيفِر على نسخةٍ خَطيَّة مصورة جميلة من مقاماته.
وكان الهمذاني، المتوفى سنة ١٠٠٧ م، ذا شهرة واسعة في ذلك المضمار أيضاً، وكان الهمذاني ذا ذاكرة قوية فيحفظ القصيدة على ظهر القلب عندما يسمعها أولَ مرة، وكان الهمذاني مشهوراً، أيضاً، بصفاء لغته وانتقاء التعابير في ارتجالاته.