وإنني أقتطف الأبيات الآتية من معلقة طَرَفة التي وَصَف بها الحياة وصفاً لا أرى أكثر الفلاسفة ارتياباً يضيف إليه شيئاً كبيراً، قال طرفة:
كريم يروي نفسه في حياته ... تعلم إن متنا غداً أينا الصدي
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفذ
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يوماً يقده لحتفه ... ومن يك في حبل المنية ينقد
وتَقْرَبُ من تلك الأفكار الممتازة أنشودة حرب جاء بها بلغريق من نجد، ولم يُعرف زمن قَرْضَها، فمنها يبدو للقارئ بوضوح، كما يبدو له من القصيدة السابقة، ماذا كان يَجُول في خاطر المحارب العربي، وإليك تلك القصيدة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي ... فداعيه لأهل الأرض داعي
وما للمرء خير من حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع
وداوم العرب على قَرْضِ الشعر دوامَ حضارتهم، وإن لم يَسْبِقوا المستوى الذي وُصِل إليه قبل النبي، وكان يَقْرِض الشعرَ كل رجل مثقف، سياسياً كان أو فلكياً أو طبيبًا، ولم يكن لغوًا قول بعضهم: «إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أممُ العالم مجتمعةً»، وكان من حب العرب للشعر أن صاروا، في بعض الأحيان، يؤلِّفون كتبَ التوحيد والفلسفة والجبر نظماً، ومن يُطالع قصصهم يَرَ أكثرها ممزوجاً بقِطعٍ شعرية.