إن المصادر التي يُرجع إليها في تصوير حضارة العرب في صقلية قليلة، وليس لدينا منها غير ما هو مبعثر في كتب المؤرخين من الفقر، وقليل من المباني التي لم تنلها يد التخريب، وبعض النقود، وتكفي هذه المصادر، مع ذلك، لإثبات أن حضارة العرب كانت في صقلية على شيء من التقدم، وإن لم تكن مثل ما كانت عليه في مصر وإسبانية، وأن صقلية كانت حين جلاء العرب عنها أرقى ثقافة وصناعة واجتماعياً منها حين دخلوها، ونحن إذا علمنا أن قيمة تأثير إحدى الأمم في أمة أخرى من ناحية الحضارة تقدر بمقدار نهوضها بها وإصلاحها لها رأينا أنه كان للعرب تأثير عظيم في صقلية.
وعقب دور تنظيم العرب لصقلية دور فتحهم لها، فقسم العرب صقلية إلى ثلاث ولايات بعد أن كانت مقسومة، منذ زمن القرطاجيين إلى الولايتين: بلرم وسرقوسة، فكان تقسيم العرب لها إلى ثلاث ولايات أكثر ملاءمة لجغرافيتها، وكان على رأس كل واحدة من هذه الولايات الثلاث والٍ، وكانت كل ولاية مقسمة إلى عدة أعمال، وكان يقوم بشؤون كل واحد من هذه الأعمال قائد تابع للوالي، وكان يقيم ببلرم مفتٍ، وكان يقيم بكل ناحية قاض ومسجل، وكان في كل مدينة جابٍ، وكان يشرف على إدارة أمور المال والمحاسبة ديوان كبير.
وترك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام، فكان للنصارى، كما في زمن الروم، قوانينهم المدنية والدينية وحكام منهم للفصل في خصوماتهم وجباية الجزية السنوية التي فرضها العرب عليهم، وهي ٤٨ ديناراً عن كل غني، و ٢٤ ديناراً عن كل موسر، و ١٢ ديناراً عن كل من يكسب عيشه بنفسه، وكانت هذه الجزية، التي هي دون ما كان يأخذه الروم، لا تؤخذ من رجال الدين والنساء والأولاد.
وجعل العرب كل ما له علاقة بالحقوق المدنية، كالتملك والإرث وما إليهما، ملائماً لعادات صقلية، ولم يرغب النورمان عنه حين استولوا عليها.
وسمح العرب، في أيام سلطانهم، للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية، وقد روى الدومينيكي كواردين، وكان رئيساً لدير القديسة كاترين في بلرم، أن القساوسة كانوا أحراراً في الخروج لابسين حللهم الدينية ليناولوا المرضى القربان الأقدس، وقد روى الأب مور كولي أنه كان ينصب في الحفلات العامة بمسينة رايتان: إحداهما إسلامية وعليها صورة برج أسود في حقل أخضر، والأخرى نصرانية وعليها صورة صليب مذهب في حقل أحمر، ولم يمس العرب الكنائس القائمة في صقلية