وجرجنتة، وأطلق المؤرخون لقب ملك على أمير بلرم، ولكن هذا الملك كان يقتتل هو والأمراء المسلمون الآخرون مع استيلاء النورمان على نصف جزيرة صقلية.
وجعل انقسام العرب في صقلية فتح النورمان لها من الممكنات، وتم استيلاء النورمان عليها بدخولهم بلرم سنة ١٠٧٢ م، فأفل نجم العرب السياسي عن صقلية في تلك السنة، وإن دام تأثيرهم الثقافي بعدها زمناً طويلاً بفضل دراية روجر وخلفائه.
وبدا روجر الأول، الذي نودي به أميراً على صقلية، منظماً قديراً كما بد مقاتلاً شجاعاً، ويجب عده من أعاظم رجال زمنه، ويستحق ابنه الذي خلفه مثل هذا المديح.
وكانت حضارة العرب زاهرة في صقلية حين فتحها النورمان، وأدرك روجر وخلفاؤه أفضلية أتباع النبي؛ فانتحلوا تظمهم، وشملوهم برعايتهم، وتمتعت صقلية برخاء دام إلى أن قبض ملوك من السوآب على زمامها في سنة ١١٩٤ م فأجلوا العرب عنها.
وكان يسكن صقلية، حينما نظم روجر أمورها، خمسة شعوب ذات لغات وعادات مختلفة، وهي: الفرنج (النورمان ولا سيما البريتان) والأغارقة واللنبار واليهود والعرب، وكان لكل من هذه الشعوب شريعة خاصة، أي كان الأفارقة يعملون بقانون جوستنيان، واللنبار يعملون بالفقه اللنباري، والنورمان يعملون بالفقه الفرنجي، والعرب يعملون بالقرآن، وكان لا بد لمن يريد أن يحسن سياسة هذه الشعوب المختلفة من التحلي بروح التسامح والعدل والإنصاف، وكان العرب يدركون ذلك فجاء روجر فأدركه أيضاً، وكانت إمامة الثقافة والصناعة للمسلمين، فأخذ روجر يحافظ عليهم أحسن المحافظة، وكانت مراسيم روجر تكتب بالعربية واليونانية واللاتينية، وكان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية والنصف الآخر باليونانية أو اللاتينية، وكان بعضها يشتمل على رمز المسيح، وبعض منها يشتمل على رمز محمد، وبعض آخر يشتمل على كلا الرمزين.
وسار خلفاء روجر على شنته، ومنهم غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يرجع إليهم في أهم شؤونه، وكانوا يقابلون عطفه بإخلاصهم له، فينضوون إليه ويساعدونه على إطفاء ما يقع من الفتن.
وروى مؤرخو العرب أن عدد العرب في صقلية أصبح كثيراً في سنة ١١٨٤ م، أي بعد قرن من ذلك الفتح، وأنه كان لهم في بلرم أحياء واسعة ومساجد كثيرة وأئمة وقاض للفصل في خصوماتهم، وأزهر بلاط ملوك النورمان في صقلية بفضل العرب، وبالغ أبو الفداء في تقديره؛ فشبهه ببلاط الخلفاء في بغداد، وببلاط الخلفاء في القاهرة.