خضع الشرق لكثير من الشعوب، كالفرس والأغارقة والرومان ... إلخ، ولكن تأثير هذه الشعوب السياسي إذا كان عظيمًا دائمًا فإن تأثيرها المدنيَّ كان ضعيفاً عموماً، وإذا عَدَوْتَ المدن التي كانت تملكها هذه الشعوب رأساً رأيتَها لم تُوَفَّق لِفَرض دينها ولغتها وفنونها، ومن ذلك أن ظلَّت مصر الثابتة في زمن البطالمة وفي زمن الرومان وفيَّةً لماضيها، وكان ما تعلم من اعتناق الغالبين لديانة المغلوبين ولغتهم وطِراز بنائهم فيها، وكان ما تَعْرِف من إقامة البطالمة لمبانيهم التي رمَّمَها القياصرة، على الطراز الفرعوني.
وما عجز الأغارقة والفرس والرومان عنه في الشرق قَدَرَ عليه العرب بسرعة ومن غير إكراه، ومن ذلك أن مصر، التي كان يلوح أنها أصعب أقطار العالم إذعاناً للمؤثرات الأجنبية، نسيت، في أقل من قرن واحد مرَّ على افتتاح عمرو بن العاص لها، ماضي حضارتها الذي دام نحو سبعة آلاف سنة معتنقة ديناً جديداً ولغة جديدة وفناً جديداً اعتناقاً متيناً دام بعد تواري الأمة التي حَمَلتها عليه.
ولم يُغيِّر المصريون دينهم سوى مرة واحدة قبل العرب، وذلك حين خرَّب قياصرة القسطنطينية بلاد مصر بتحطيمهم جميع آثارها أو تشويهها وجعلهم القتل عقوبة من يخالف حظر عبادة آلهتها الأقدمين، وهكذا عانى المصريون ديناً جديداً فُرِض عليهم بالقوة أكثر من اعتناقهم له، وما كان من تهافت المصريين على نَبْذِ النصرانية ودخولهم في الإسلام يُثبت درجة ضَعف تأثير النصرانية فيهم.