للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[(٣) نظم العرب السياسية]

ذكرنا في الفصل الذي خصصناه للعرب في بغداد أهم عناصر دستورهم السياسي، وقلنا: إن إدارة الحكم العربية، ولا سيما المالية والضرائب والشرطة، كانت تسير سيراً رشيداً، ومن المؤسف أن كانت تلك الإدارة الرشيدة تستند إلى نظم سياسية ضعيفة إلى الغاية.

ولا شيء أكثر بساطة من نظم العرب السياسية، فقد قامت على مساواة الجميع التامة تحت سيد واحد، أي تحت وكيل لله في الأرض الذي كان الصاحب الوحيد لكل سلطة مدنية ودينية وحربية، والذي لم يكن في الدولة سلطةٌ غير سلطته أو سلطة مندوبيه، ولم يعرف العرب قط نظام الإقطاع والأرستوقراطية والوظائف الوراثية.

وكان نظام العرب السياسي ديمقراطياً يديره سيدٌ مطلق في الحقيقة، وساد مبدأ المساواة التامة في هذا النظام، ومن ذلك ما ذكرته من حكم عمر بن الخطاب في أمر لَطْمَةِ ملك الغساسنة، الذي أسلم بعد واقعة اليرموك، لذلك العربي، فقد قضى عمر بن الخطاب أن يفتديَ ذلك الملك الغساني نفسه، وإلا أمر ذلك العربيَّ بأن يلطِمه، وقد قال عمر بن الخطاب لذلك الملك الغساني: «إن الإسلام جمعكما وسوَّى بين الملك والسُّوقة.»

وكانت خلافة الخلفاء الأولين أمراً انتخابياً، ثم أصبحت الخلافة وراثية، أي صار الخلفاء يختارون من بين أبناء أسرتهم الذكور أصلحهم، وأمر مثل هذا حسنٌ لعدم استناده في منح السلطة إلى النسب وحده، ولكنه كان يؤدي إلى تنافس أولئك الأبناء وتنازعهم تنازعاً شديداً يمكن تلافيه لو كان النسب وحده حَكماً.

وإذ لم يكن الخلفاء قادرين على ممارسة سلطانهم في جميع أنحاء دولتهم كانوا مضطرين إلى إنابة ولاة عنهم؛ ليقوموا مقامهم في القضاء والقيادة والإدارة، وكان ينشأ عما يتمتع به هؤلاء الولاة من السلطة طَمَعُهم في الاستقلال فيَجدون فيما لديهم من السلطان المطلق وسائلَ لبلوغ ذلك، فكان على خلفاء المشرق والمغرب أن يحاربوهم على الدوام.

ولم ينشأ ضعف الخلفاء عن فِتَن الولاة الدائمة وحدها، بل هنالك علل كانت تَفُتُّ في عضد الدولة العربية أيضاً، ومن أهمها: اختلاف الشعوب التي خضعت لشريعة القرآن فيما بين مراكش والهند، فإذا كان القرآن ملائمًا لاحتياجات بعض الأمم فإنه لم يلائم احتياجات بعضها الآخر، وإذا كان السوريون واليهود والبربر والنصارى ... إلخ، قد خضعوا لنظم قاهريهم حيناً من الزمن فإنهم لم يُقصِّروا في التخلص منها بعد أن رَأَوْها غير ملائمة لاحتياجاتهم بدرجة الكفاية.

<<  <   >  >>