ذكر أصحاب التاريخ القديم أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن، وأثراها وأغدقها، وأكثرها جناناً وغيطاناً، وأفسحها مروجاً، بين بنيان وجسر مقيم، وشجرٍ موصوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهارٍ متفرقة، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال وفي العرض مثل ذلك، وأن الراكب أو المار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس، ولا يفارقه الظل؛ لاستتار الأرض بالعمارة والشجر، واستيلائها عليها، وإحاطتها بها، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه وأهنأ حال وأرغده، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء، وصفاء الفضاء، وتدفق المياه، وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة، فكانت بلادهم في الأرض مثلاً، وكانوا على طريق حسن من اتباع شريف الأخلاق وطلب الفضائل على القاعد والمسافر بحسب الإمكان، وما توجده القدرة من الحال، فمضوا على ذلك ما شاء الله من الإعصار لا يعاندهم ملكٌ إلا قصموه، ولا يوافيهم جبار في جيش، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد؛ فصاروا تاج الأرض.
ويظهر أن أسداد مأرب كانت سبب ثراء بلاد اليمن، والأسداد جدرانٌ ثخينة قائمة في عرض الأودية لحجز السيول، حتى إذا امتلأ ما بينها تكونت بحيرةٌ واسعة ذات منافذ تجري منها المياه لري الأراضي، ويروي مؤرخو العرب أن الملكة بلقيس التي زارت سليمان، على زعمهم، هي التي أنشأت تلك الأسداد، ونشأ عن خراب أسداد مأرب في القرن الأول من الميلاد فقر بلاد اليمن وتفرق سكانها.
ويكفي تطابق تلك الروايات لإثبات مماثلة مدن اليمن في نضارتها لمدن مصر وتقدمها الكبير في ميدان الحضارة، ولا تزال بقاياها مطمورةً تحت التراب، وهي تنتظر البحاثة الذي يزيله عنها كما أزيل عن نينوى وبابل.
ومن الأدلة على ازدهار مدن اليمن في القرون القديمة ما كان لها من الصلات التجارية الواسعة بالبلاد الأخرى، وبما أن من الصعب أن نعثر في التاريخ على أمةٍ ذات شأن كبير في التجارة من غير أن تكون متمدنة، وبما أن علاقات العرب التجارية العالمية استمرت ألفي سنة، وقد ورد ذكرها في التوراة، فإننا نقول: إن العرب ضربوا بسهم وافر في ميدان الحضارة، وإنه كان لمخازنهم من الأهمية ما لمخازن البندقية في إبان عظمتها.
وكان العرب واسطة بين قدماء الأوربيين وبقاع الشرق القاصية، ولم تقتصر تجارة العرب على منتجات بلادهم، بل كانت تشمل السلع التي كانوا يجلبونها من إفريقية