رسخت، وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونعدُّ من الواضح خاصةً أمرَ مصر التي لم يوفَّق فاتحوها من الفرس والأغارقة والرومان أن يقلبوا الحضارة الفرعونية القديمة فيها وأن يقيموا حضارتهم مقامها.
وهنالك أسباب أخر غيرُ تسامح العرب وحِلْمِهم ساعدت على انتشار دينهم ونظمهم المشتقة منه، وذلك أن هذه النظم كانت من البساطة، في الحقيقة، ما لاءَمت معه احتياجات طبقات الأهلين الوسطى البسيطة أيضاً، وإذا حدث اتفاقاً، أن كانت هذه النظم غيرَ ملائمة لهذه الاحتياجات عدَّلها العرب كما تقضي به الضرورة، وبهذا نفسر السِّرَّ في اختلاف نظم المسلمين في بلاد الهند وفارس وجزيرة العرب وإفريقية ومصر اختلافاً كبيراً في بعض الأحيان مع أن القرآن واحد.
والآن انتهينا إلى الزمن الذي أتمَّ العرب فيه فتحَهم للعالم، ولكنَّ بحثنا لمَّا يتمَّ، وذلك أن دور الفتح لم يكن سوى وجه واحد من وجوه تاريخ أشياع النبي، وأن العرب أبدعوا حضارةً جديدةً بعد أن فتحوا العالم، وأن الأسبابَ التي ذكرناها لا تكفي لإيضاح هذا الإبداع، فلا بد، إذن، من وجود عوامل أخرى.
وجد عاملان قاطعان في إبداع حضارة العرب، وهما بيئة العرب الجديدة وقابلياتُ ذكائهم.
والبيئة مما وصفنا آنفًا، ولم يَلبث العرب بعد خروجهم من صحارى جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بَهَرَهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي كما كانوا قد أدركوا تفوقها الحربي، فجدوا ليكونوا على مستواها من فورهم. ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاءً مثقفاً، وأثبتت الجهود الخائبة التي حاول البرابرة قروناً كثيرةً أن يدركوا بها معنى ما بَقِيَ من الحضارة اللاتينية صعوبةَ ذلك، ولم يكن العرب من البرابرة لحسن الحظ، ونحن، وإن كنا نجهل حضارتهم قبل ظهور محمد بزمنٍ طويل، أي حين كانوا ذوي صلات تجارية ببقية العالم، أثبتنا أنهم كانوا ذوي ثقافةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ أيامَ هذا النبي.
والحق أن الرجل الأديب المثقف يجهل أموراً كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة لِمَا فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد الذي أبدَوْا لفتحه.
ولم يتقيد العرب في دراسة الحضارة التي واجهتهم فجأةً بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البيزنطيين منذ زمن طويل، فكانت هذه الحرية من أسباب تقدمهم السريع،