للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

[وقفات إيمانية في ظل الرُّهاب من كورونا]

أما الوقفة الأولى: علينا أن نعلم أيها الإخوة أن الطَّواعين والأوبئة كانت ولا تزال تقع في الناس، ولله في ذلك كمالُ الحكمة والتدبير، فقد عرفها الناسُ مُنذ القدم، وذكرها المؤرخون في التاريخ، وتكلّم العلماء عن أحكامها الشرعية في كتبهم، بل مات بسببها جماعات من سادات الصحابة، منهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وغيرهم، بل ذكر المؤرخون أنه توفي في طاعون عمواس وحده من المسلمين ما يزيد عن خمسة وعشرين ألفاً" (١)

وقيل أكثر من ذلك بكثير .. وكان ذلك في أيام خلافة الفاروق عمر، وقد عدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك من أشراط الساعة، فقد روى الإمام البخاري عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ أو - مَوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ ... (٢)». قال أبو عبيد اللغوي الفقيه ١٥٧ هـ: "القُعاص: داءٌ يأخُذ الغنم لا يُلبِثها إلى أن تموت، وهو داءٌ قاتل (٣) ". وَقَالَ ابْن فَارس: "القعاص دَاء يَأْخُذ فِي الصَّدْر كَأَنَّهُ يكسر الْعُنُق (٤) ".

الناس عند نزول البلاء إما معذبين وإما مختبرين:

ولنعلم أيها الأحبة: أنَّ الْأَوْبِئَة وَالطَّوَاعِين إما أن تكونَ عذاباً وبلاءً، وإما أن تكونَ ابْتِلَاءً واختباراً، فالذين تسلطوا على المسلمين والمستضعفين في الأرض، وضيّقوا عليهم حتى في دور عبادتهم فهدموا منها ما هدموا .. هؤلاء وأمثالهم يكون البلاء عليهم عذاباً وعقاباً في الدنيا قبل الآخرة، وأما نزول هذا البلاء على المؤمنين القائمينَ بِأمرِ اللهِ تعَالَى فيكون ابْتِلَاءً واختباراً وتذكيراً. فهو إذن لقومٍ عذابٌ وبلاء، ولقومٍ آخرين اختبارٌ وابتلاء.

ولنسمع ما أعدَّ الله عزَّ وجل لعباده المؤمنين الذين وقع عليهم هذا البلاء وماتوا بسببه، تقول السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي: «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ (٥)». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الله أكبر .. وهذه بشارة وأيّ بشارة! للذين يبتلون بالأمراض والأوبئة المميتة كالسرطان وغيره؛ فإن صبروا واحتسبوا وأحسنوا الظن بخالقهم كان لهم مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ، وقال صلى الله عليه وسلم: في حديث آخر: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ (٦)» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أي يكون الميت به في درجة الشهداء يوم القيامة.


(١) الكامل في التاريخ ط صادر ٢/ ٥٥٨. البداية والنهاية ١٠/ ٦٨. ذكر ابن كثير ذلك في ما جرى سَنَةُ ثَمَانِي عَشْرَة، تحت باب [طَاعُونُ عَمَوَاسَ وَعَامُ الرَّمَادَةِ] الناشر: دار هجر. ط ١
(٢) أخرجه البخاري ٦/ ١٩٨ و ١٩٩ في الجهاد، باب ما يحذر من الغدر.
(٣) تهذيب اللغة ١/ ١٢١ لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري.
(٤) عمدة القاري شرح صحيح البخاري ١٥/ ١٠٠.
(٥) رواه البخاري ١٠/ ١٦٣ في الطب، باب أجر الصابر على الطاعون، وفي الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، وفي القدر، باب {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}.وأخرجه أحمد (٦/ ٦٤). ا. هـ (جامع الأصول)
(٦) رواه البخاري ١٠/ ١٦٢ في الطب، باب ما يذكر في الطاعون، وفي الجهاد، باب الشهادة سبع سوى القتل، ومسلم رقم (١٩١٦) في الإمارة، باب بيان الشهداء. ا. هـ (جامع الأصول)

<<  <   >  >>