فِي دِينِهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءَ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ عَمْدًا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَغَضَبَ الْجَبَّارِ وَلَعْنَتَهُ، وَإِعْدَادَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ، هَذَا مُوجِبُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْقَتْلِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا مَانِعٌ مِنْ نُفُوذِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهَلْ تَمْنَعُ تَوْبَةُ الْمُسْلِمِ مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ؟ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
تَوْبَةُ الْقَاتِلِ
وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا تَمْنَعُ التَّوْبَةُ مِنْ نُفُوذِهِ. رَأَوْا أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مِنْهُ بِظُلَامَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْتَوْفَى فِي دَارِ الْعَدْلِ.
قَالُوا: وَمَا اسْتَوْفَاهُ الْوَارِثُ إِنَّمَا اسْتَوْفَى مَحْضَ حَقِّهِ الَّذِي خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْتُولَ مِنِ اسْتِيفَاءِ وَارِثِهِ؟ وَأَيُّ اسْتِدْرَاكٍ لِظُلَامَتِهِ حَصَلَ بِاسْتِيفَاءِ وَارِثِهِ؟
وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ حَقَّ الْمَقْتُولِ لَا يَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْوَارِثِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا.
وَرَأَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْوَارِثِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَالذَّنْبُ الَّذِي جَنَاهُ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ.
قَالُوا: وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ تَمْحُو أَثَرَ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ، وَهُمَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْقَتْلِ، فَكَيْفَ تَقْصُرُ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الْقَتْلِ؟ وَقَدْ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَجَعَلَهُمْ مِنْ خِيَارِ عِبَادِهِ، وَدَعَا الَّذِينَ أَحْرَقُوا أَوْلِيَاءَهُ وَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [سُورَةُ الزُّمَرِ: ٥٣] فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَمَا دُونَهُ.
قَالُوا: وَكَيْفَ يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ؟ هَذَا مَعْلُومٌ انْتِفَاؤُهُ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ.
قَالُوا: وَتَوْبَةُ هَذَا الْمُذْنِبِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمَقْتُولِ، فَأَقَامَ الشَّارِعُ وَلِيَّهُ مَقَامَهُ وَجَعَلَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ إِلَيْهِ كَتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمَقْتُولِ، بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ لِوَارِثِهِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ تَسْلِيمِهِ لِلْمُوَرِّثِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ،