وَحَقٌّ لِلْوَلِيِّ، فَإِذَا سَلَّمَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا إِلَى الْوَلِيِّ نَدَمًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَخَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَوْبَةً نَصُوحًا، سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْوَلِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوِ الصُّلْحِ أَوِ الْعَفْوِ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَقْتُولِ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ الْمُحْسِنِ، وَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ هَذَا، وَلَا تَبْطُلُ تَوْبَةُ هَذَا.
التَّوْبَةُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَالِ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا بَرِئَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْمُطَالَبَةُ لِمَنْ ظَلَمَهُ بِأَخْذِهِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ بِأَخْذِ وَارِثِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ مَنَعَهُ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِهِ فِي طُولِ حَيَاتِهِ، وَمَاتَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، وَهَذَا ظُلْمٌ لَمْ يَسْتَدْرِكْهُ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ بِاسْتِدْرَاكِهِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَتَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ، كَانَتِ الْمُطَالِبَةُ لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ كَوْنِهِ هُوَ الْوَارِثَ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَفَصَلَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ تَمَكَّنَ الْمَوْرُوثُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ، صَارَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِلْوَارِثِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا هِيَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ طَلَبِهِ وَأَخْذِهِ، بَلْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَالطَّلَبُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُقَالُ، فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الظَّالِمُ عَلَى الْمَوْرُوثِ، وَتَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْهُ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ الَّذِي قَتَلَهُ قَاتِلٌ، وَدَارِهِ الَّتِي أَحْرَقَهَا غَيْرُهُ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ الَّذِي أَكَلَهُ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا تَلَفَ عَلَى الْمَوْرُوثِ لَا عَلَى الْوَارِثِ، فَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِمَنْ تَلَفَ عَلَى مِلْكِهِ. وَيَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا كَانَ الْمَالُ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ أَعْيَانًا قَائِمَةً بَاقِيَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ مِلْكُ الْوَارِثِ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ أَعْيَانَ مَالِهِ اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا فِي الدُّنْيَا.
وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ لَا مَخْلَصَ مِنْهُ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ: الْمُطَالِبَةُ لَهُمَا جَمِيعًا، كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ؛ اسْتَحَقَّ كُلٌّ مِنْهُمُ الْمُطَالَبَةَ لِحَقِّهِ مِنْهُ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَى عَلَى وَقْفٍ مُرَتَّبٍ عَلَى بُطُونٍ، فَأَبْطَلَ حَقَّ الْبُطُونِ كُلِّهِمْ مِنْهُ، كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَمِيعِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute