أَمْ عَزَّ نَوْمَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ ... أَهَدَتْ إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ
يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ ... يَشْكُو السُّهَادَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ
أَسَلَّمْتَ مَنْ تَهْوَى لِحَرِّ جَوًى ... مُتَوَقِّدٍ كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ
فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ ... مُغْرًى بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ
مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَهِيمُ بِحُبِّهَا ... حَتَّى بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي
ثُمَّ انْقَطَعَ الصَّوْتُ، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ، وَإِذَا بِهِ قَدْ عَادَ الْبُكَاءُ وَالْأَنِينُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرٌ ... وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ
وَاغْتَالَ مُهْجَتَكَ الْهَوَى بِرَسِيسَةٍ ... وَاهْتَاجَ مُقْلَتَكَ الْخَيَالُ الزَّائِرُ
نَادَيْتَ رَيًّا وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ ... يَمٌّ تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ
وَالْبَدْرُ يَسْرِي فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ ... مَلِكٌ تَرَجَّلَ وَالنُّجُومُ عَسَاكِرُ
وَتَرَى بِهِ الْجَوْزَاءَ تَرْقُصُ فِي الدُّجَى ... رَقْصَ الْحَبِيبِ عَلَاهُ سُكْرٌ ظَاهِرُ
يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ ... إِلَّا الصَّبَاحَ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ
فَأَجَابَنِي مُتْ حَتْفَ أَنْفِكَ وَاعْلَمَنْ ... أَنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ
قَالَ: وَكُنْتُ ذَهَبْتُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْأَبْيَاتِ فَلَمْ يَتَنَبَّهْ إِلَّا وَأَنَا عِنْدُهُ، فَرَأَيْتُ شَابًّا مُقْتَبِلًا شَبَابُهُ قَدْ خَرَقَ الدَّمْعُ فِي خَدِّهِ خَرْقَيْنِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ كُنْتُ جَالِسًا فِي الرَّوْضَةِ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا صَوْتُكَ، فَبِنَفْسِي أَفْدِيكَ فَمَا الَّذِي تَجِدُهُ؟ فَقَالَ أَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، غَدَوْتُ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ اعْتَزَلْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ أَقْبَلْنَ يَتَهَادَيْنَ مِثْلَ الْقَطَا، وَإِذَا فِي وَسَطِهِنَّ جَارِيَةٌ بَدِيعَةُ الْجَمَالِ، كَامِلَةُ الْمَلَاحَةِ، فَوَقَفَتْ عَلَيَّ، فَقَالَتْ: يَا عُتْبَةُ، مَا تَقُولُ فِي وَصْلِ مَنْ يَطْلُبُ وَصْلَكَ؟ ثُمَّ تَرَكَتْنِي وَذَهَبَتْ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا خَبَرًا، وَلَا قَفَوْتُ لَهَا أَثَرًا، وَأَنَا حَيْرَانُ أَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ صَرَخَ وَأَكَبَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، كَأَنَّمَا صُبِغَتْ وَجَنَتَاهُ بِوَرْسٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَرَاكُمْ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... فَيَا هَلْ تَرَوْنِي بِالْفُؤَادِ عَلَى بَعْدِي
فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ ... وَعِنْدَكُمْ رُوحِي وَذِكْرُكُمْ عِنْدِي
وَلَسْتُ أَلَذَّ الْعَيْشَ حَتَّى أَرَاكُمُ ... وَلَوْ كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ
فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي، تُبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ مِنْ ذَنْبِكَ، فَبَيْنَ يَدَيْكَ هَوْلُ الْمَطْلَعِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِسَالٍ حَتَّى يَئُوبَ الْقَارِظَانِ، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الصُّبْحُ، فَقُلْتُ: قُمْ بِنَا