نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، فلم يكذبهم في هذا العذر، كما كذَّبهم في سائر ما أظهروه من العذر الّذي يوجب براءتهم من الكفر، كما لو كانوا صادقين، بل بَيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب.
وإذا تَبَيَّن أن مذهب سلف الأمة، ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كُفْرٌ، استحَلَّها صاحبها أو لم يستحلها، فالدّليل على ذلك جميعُ ما قدمناه في المسألة الأولى، من الدّليل على كفر السابّ، مثل قوله تعالى:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} الآية [التوبة: ٦١]، وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [الأحزاب: ٥٧]، وقوله تعالى:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية [التوبة: ٦٦]، وما ذكرناه من الأحاديث والآثار، فإنها أدلّة بَيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كُفْرٌ، مع قطع النظر عن اعتقاد التّحريم وجودًا وعدمًا (١).
وقال أيضًا في موضع آخر: قد ثبت أن كلّ سبّ وشتم يبيح الدم، فهو كفرٌ، وإن لم يكن كلّ كفرٌ سبًّا، ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة:
قال الإمام أحمد: كلّ من شتم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو تنقّصه، مسلمًا كان، أو كافرًا، فعليه القتل، وأرى أن يُقْتَل ولا يستتاب، وقال في موضع آخر: كلُّ من ذكر شيئًا يُعَرض بذكر الربّ تبارك وتعالى، فعليه القتل مسلمًا كان، أو كافرًا، وهذا مذهب أهل المدينة.
وقال أصحابنا -يعني الحنبلية-: التعرض بسبّ الله تعالى، وسبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رِدّةٌ، وهو موجب للقتل كالتصريح، ولا يختلف أصحابنا أن قذف أُمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جملة سبه الموجب للقتل، وأغلظ؛ لأن ذلك يُفضي إلى القدح في نسبه، وفي عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سب أُمّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُقتل مسلمًا كان، أو كافرًا، وينبغي أن يكون مرادهم بالسبّ هنا القذف، كما صرح به الجمهور؛ لما فيه من سب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
وقال القاضي عياض: جميعُ مَنْ سَبَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، أو عابه، أو ألحق به نقصًا في
(١) "الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (٣/ ٩٥٥ - ٩٦٤).