ولم يقل {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، إلا وأن حالتيهما مختلفتان في تكليم الله إياهم، فمما يزيد ذلك تحقيقًا قوله:{أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}[آل عمران: ٧٧] يعنى يوم القيامة.
ففي هذا بَيَانٌ بَيِّنٌ أنه لا يُعَاقِبُ قومًا يومَ القيامةِ بِصَرْفِ كَلامِهِ عَنْهُم، إلا وأَنَّهُ مُثِيبٌ بِتَكْلِيمِهِ قَوْمًا آخَرينَ.
ثم قد مَيَّزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من يُكَلِّمُهُ الله يوم القيامة، وبين من لا يكلمه، فمن ذلك ما روينا في هذا الباب عن عَدِيِّ بنِ حَاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة».
والحديث الآخر ما روينا عن أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة».
ففي هذين الحديثين أيضًا بيان بَيِّن على نفس كلام الله - عز وجل -، أنه يُكَلِّمُ أقوامًا، ولا يُكَلِّمُ آخرين، ولو كان كما ادَّعيتُم؛ كان المُثابُ بكلامِ الله، والمُعَاقَبُ بهِ المصروف عنه سواءٌ عندكم، ألا ترى أن أبا ذَرٍّ سَأَلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن آدمَ صلوات الله عليه، أَنَبِيًّا كان؟ قال: نعم مُكَلَّمًا، فهذا يُنْبِئُكَ أَنَّهُ أرادَ نَفْسَ كلامِ الله، لا كلام من سِواه.
ولو كان مُكَلَّمًا بكلامِ المخلوقِينَ في دعواكم، لم يكن فيه كَبِيرُ فَضِيلةٍ لآدمَ على غيره من الخلق؛ لأن عَامَّةَ الخَلْقِ يُكَلِّمُ بَعْضُهُم بَعضًا فهم مُكَلَّمُونَ، فما فضلُ آدم في هذا عندكم على من سواه من ذريته؟! وقد قال تبارك وتعالى: ... {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)} [البقرة: ٣٧].