قال أبو سعيد رحمه الله: نَاظَرَنِي رَجُلٌ بِبَغْداد، مُنَافِحًا عن هؤلاءِ الجهمية فَقَال لِي: بأيةِ حُجَّةٍ تُكَفِّرُونَ هؤلاءِ الجَهمية، وقَدْ نُهِىَ عَنْ إِكْفارِ أَهْلِ القِبْلَةِ؟ بِكِتَابٍ نَاطِقٍ تُكَفِّرُونَهُم؟ أَم بِأَثَرٍ، أَمْ بِإجماعٍ؟
فقلت: ما الجَهْمِيَّةُ عِندنَا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ، ومَا نُكَفِّرُهُم إلا بِكتابٍ مَسْطُورٍ، وأَثَرٍ مَأْثُورٍ، وكُفْرٍ مَشْهُورٍ.
أما الكتابُ؛ فما أخبرَ اللهُ - عز وجل - عن مُشرِكِي قُريش، مِنْ تكذيبهم بالقرآن، فكان مِنْ أَشَد ما أخبر عنهم من التكذيب؛ أنهم قالوا: هو مخلوقٌ، كما قالتِ الجهمية سواء، قال الوحيد وهو الوليدُ بنُ المُغِيْرَةَ المخْزُومِيُّ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)} [المدثر: ٢٥] وهذا قَولُ جَهْم، إن هذا إلا مخلوق، وكذلك قَولُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِ.
وقَوْلُ مَنْ قَال:{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}[الفرقان: ٤]، و {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)} [الأنعام: ٢٥]، و {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧)} [ص: ٧]، معناهم في جميع ذلك ومعنَى جَهم في قوله؛ يَرجِعَانِ إلى أَنَّهُ مخلوق، ليس بينهما فيه مِنَ البَوْنِ كَغَرْزِ إِبْرَةٍ، ولا كَقِيسِ شَعْرَةٍ، فَبِهَذا نُكَفِّرُهُم، كما أكفر الله به أَئِمَّتَهُم من قُرَيْشٍ، وقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦)} [المدثر: ٢٦] إِذْ قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)} [المدثر: ٢٥]؛ لأنَّ كُلَّ إِفْكٍ، وتَقَوُّلٍ، وسِحْرٍ، واخْتِلاَقٍ، وقولِ البَشَرِ كُله لا شَكَّ في شيءٍ منه أنه مخلوق، فاتَّفَقَ مِنَ الكُفْرِ -بَيْنَ الوليد بن المغيرة، وجهم بن صفوان- الكَلِمة، والمراد في القرآن أنه مخلوق، فهذا الكِتَابُ النَّاطِقُ في إِكْفَارِهِم.