وكلُّ ما علَّقه البخاري أو أشار إليه يدلُّ على أن له أصلًا عنده ينبغي للفقيه إعارته النظر الدقيق، وليس كالذي لم يُعَلِّقْهُ ولم يشرْ إليه، كما لا يخفى. وقد اشتهر عن البخاري كمالُ فقهه، ودقةُ نظره، وقوة استنباطه وعِلمه، كما ترى في ترجمته هذه، فإنه عَدَلَ عن الاستدلال على عدم وقوع طلاق الغضبان بحديث الإغلاق لِنظير ما فيهِ عنده = إلى الاستدلال بحديث النية على عدم وقوعه، لأن هذا الحديث هو الكُلِّيُّ الأعظم في أبوابٍ من الشريعة. ولذا قال الحافظ بن حجر تحت ترجمة البخاري المذكورة ما مثاله: "اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل المتخار لا نِيَّة له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الخالط والناسي والذي يُكَرَهُ على الشيء". وعليه، فإن مذهب البخاريُّ يتَّفق مع مذهب من قال بعدم وقوع طلاق الغضبان مآلًا، وإن اختلفا مأخذًا واستدلالًا -سُنَّةَ المجتهدين الاجتهاد المطلق-. على أن حديث الإغلاق بما قام على كون معناه معقولًا من الوجوه الآتية في هذا الكتاب التي كادت تقرب من الثلاثين = صار من الصحيح لغيره، وهو قسيم الصحيح لذاته. والصحيحُ لغيره ما صُحِّح لأمرٍ أجنبيّ عن السند. قال ابن الحصار: قد يعلم الفقيه (المجتهد) صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آيةٍ من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به. (القاسمي).