الأول: أنَّ المؤاخذةَ إنما ترتَّبَتْ على الأقوال، لكونها أدلةً على ما في القلب مِنْ كسبه وإرادته، كما قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥]، فجعلَ سبب المؤاخذة كَسْبَ القلبِ، وكَسْبُه هو إرادتُه وقصدُه. ومَنْ جرى على لسانه الكلام مِنْ غير قصدٍ واختيار، بل لشدةِ غضبٍ وسكْرٍ أو غير ذلك، لم يكن من كَسْبِ قلبه.
ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتدَّ فرحُه بوجودِ راحلته بعد الإياس منها، فلما وَجَدها أخطأ من شدة الفرح، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك (١)، فجرى هذا اللفظُ على لسانه من غير قصدٍ، فلم يؤاخذه به، كما يجري الغلطُ في القرآن على لسان القارئ.
لكن، قد يقال: هذا قَصَد الصواب فأخطأ، فلم يُؤاخَذْ؛ إذْ كان قَصَد ضد ما تكلَّم به، بخلاف الغضبان إذا طَلَّق، فإنه قاصدٌ للطلاق.
(١) إشارة إلى الحديث الذي رواه مسلم [(٢٧٤٦)] عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: "للهُ أشدُ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح". (القاسمي).