للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

مني، فقال له الشافعي: لا نريد ذلك؛ فإن المناظرة تنكت في القلب، ولك صداقة (١). وقال عبد الله بن حسن (ت ١٤٥ هـ) في هذا المعنى: (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة) (٢). ولذا فإنه كثيرًا ما يعرض للمتصفح لأخبار الفقهاء أن يجد فقيهين من الفقهاء الكبار يُذكر (بينهما من المنافرة في المناظرة ما يكون بين الأقران) (٣).

وهذا مما يفسر سبب اعتزال جماعة من كبار الفقهاء لمجالس المناظرة بعدما كانوا واسطة العقد منها، وانصرافهم إلى التنسك والتعبد لله تعالى، كأبي يعقوب يوسف بن وهرة الهمذاني (ت ٥٣٥ هـ) الذي تفقه بأبي إسحاق الشيرازي (ت ٤٧٦ هـ) حتى برع وفاق أقرانه خصوصًا في علم النظر (ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة وخلا بنفسه، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى ودعوة الخلق إليها وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم) (٤). وأبي الفتح الأسمندي (ت ٥٥٢ هـ) الذي كان مناظرًا بارعًا من فحول فقهاء الحنفية، ثم إنه (تنسك وترك المناظرة واشتغل بالخير إلى أن توفي إلى رحمة الله) (٥).

وتقي الدين السبكي (ت ٧٥٦ هـ) الذي تقدم وبرع وناظر، ثم (أعرض عن كثرة البحث والمناظرة، وأقبل على التلاوة والتأله والمراقبة) (٦).

وإنما انصرف هؤلاء وأمثالهم عن مجالس المناظرة للآفات التي عاينوها وتفطنوا لها، فإن هذه الآفات إن لم يتداركها علم وورع فإن صاحبها على خطر مما قد تفضي به إلى مآل السوء. ولهذا نبّه أهل العلم إلى التعامل بحذر مع المناظرات التي يحكيها أهل كل مذهب عن علمائهم، فإن الراوي ربما


(١) مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ٢٠٠).
(٢) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (٢/ ٩٥٢).
(٣) طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٣/ ١٢٩).
(٤) وفيات الأعيان، ابن خلكان (٧/ ٧٩).
(٥) الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (٣/ ٢٠٩).
(٦) طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (١٠/ ٢٠٣).

<<  <   >  >>