كان لمجالس الفقه في الأمة شأن عظيم؛ لأن الفقيه قائم في مجلسه مقام وارث علم النبوة والمبلِّغ لهداياتها ومكارمها. وتلك المجالس لم تكن على هيئة واحدة، بل كانت على هيئات بينها اختلاف في طبيعتها وعوائدها وآدابها. ومعرفة تلك العوائد ضرورة في فهم كلام أهل العلم، كما أن دخول النقص على المتفقه في العلم بها مما يورث الغلط في التصورات والأحكام، وربما اجترأ على الأئمة بما لم يحسن فهمه من كلامهم وسياق حديثهم.
وقد كان للعلماء مجالس تدريس يقصدون بها تبليغ العلم ونقله وضبطه وحسن تفهيمه بحيث يتصل السند العلمي في هذه الأمة، كما كان لهم مجالس قضاء يحكمون فيها بين الناس في خصوماتهم بالبينات الظاهرة التي لا تنضبط الحقوق إلا بمراعاتها واعتبارها، ولهم مجالس إفتاء ينهون فيها إلى الناس أحكام ما يستفتونهم فيه ويكلونهم في الأخذ بها إلى ديانتهم وهم في هذا وذاك يسوسونهم إلى ما به استصلاح لهم في أمر دينهم ودنياهم. ولهم مجالس مذاكرة ومباحثة يراد بها حفظ العلم الذي تلقوه في مجلس الدرس ونحوه، كما يراد به تثوير العلم والتفقه فيه والغوص في دقائقه وغوامضه مع الشيوخ والأقران والطلبة، ولهم مجالس مناظرة يتحاورون فيها مع المخالفين في مسائل الفقه لأجل أن يظهر الصواب في غمرة ذلك الجدل، ولهم بعد ذلك مجالس وعظ تكون سبيلًا إلى تذكير النفوس بالرغبة والرهبة إلى الاستعصام بالأمر والنهي من أحكام الشريعة.
وكلُّ واحد من هذه المجالس له سمته وهديه، وله فقهاء يكاد يكون لهم اختصاص به أكثر من غيره، وربما وُصف الفقيه بالبراعة في (صناعة التدريس)،