للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذلك من طرائق نقل العلم وفهمه والمباحثة حوله والمناظرة فيه، فإن تلك المناهج كانت قريبة من أفهام المتقدمين لتلبسهم بها وكثرة مخالطتهم لأهلها، غير أن إلف المرء لعادته وعرف زمانه كثيرًا ما يذهله عن نقل ذلك لغيره. وقد أشار إمام الحرمين الجويني (ت ٤٧٨ هـ) إلى هذا المعنى فقال: (ومعظم العمايات في مسائل الفقه من ترك الأولين تفصيل أمور كانت بيّنة عندهم). (١)

غير أن المتقدمين إن لم يصرّحوا بما كان جليًّا معلومًا فيهم، فإنه كثير وظاهر لمن استقرأ سيرهم وأخبارهم، وقد أبلت الأمة البلاء الحسن في حفظ تاريخ رجالها وأيامها ومدنها ودولها، مما لو جهد المتأخرون في دراسته وفهمه واستخراج ما فيه من العمق المعرفي والمنهجي لجاءوا بالشيء الكثير.

ولو نظرنا في المدونات العظيمة التي حفظ فيها العلماء تاريخ الأمة لألفيناها ملأي بما لم يبلغ المتأخرون بعده حدَّ النصيحة في استخراج مخبَّآته ومكنوناته. فكتاب كتاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (ت ٥٧١ هـ) الذي قال فيه الحافظ المنذري (ت ٦٥٦ هـ): (ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه) (٢)، فلو اجتمع النفر الجمُّ من الباحثين النابهين على استنطاق (نصوصه) الصامتة لطال حديثها، ولو تعاضد أهل التخصصات العلمية المختلفة وتعاونوا فيما بينهم على هذا الغرض لاختصروا الجهد والزمان، ولعادوا على العلم بما هو خير وأعظم نفعًا، فكم في تواريخ البلدان وطبقات العلماء من ذخائر لا يكاد الباحث في تاريخ العلم والفقه يهتدي إليها إلا بدلالة متخصص وإرشاد خبير. وواقع الدراسات الشرعية في الفقه وغيره شاهد بأن الغفلة عن مناهج الأوائل في رواية العلم ودراسته وتداوله وتدوينه، مما يستزل الباحث إلى طائفة من الأغلاط التي ما كان له أن يلابسها لو عرف مخارج الكلام ومداخله.


(١) نهاية المطلب (٥/ ١٨٥).
(٢) وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٣١٠).

<<  <   >  >>