أقول ليس ثمة إمام قد عاف العلة والقياس جملة، بصرياً كان أم كوفياً، وإنما اختلف نصيب كل إمام من الاقتباس بهما وفوراً أو نزوراً، إذ يتسنى من ذلك في أصول النحو ما لا يتسنى في أصول الفقه. ذلك أن في علل النحو من فسحة النظر ما لا تتسع له علل الفقه أحياناً كثيرة، كأن يكون البحث في علة مناسك الحج وترتيبها، وفرائض الصلاة وعدد ركعاتها فنجد مرد وجوبها إلى ثبوت الأمر بها بحكم الشريعة، أي بالنص، ولا نظير لذلك في النحو. قال ابن جني في الخصائص (/٥٢-ط/١٩١٣م) : "فأول ذلك أنا لسنا ندّعي أن علل العربية في سمت العلل الكلامية البتة. بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية" وهو يفرق بين الإجماع في اللغة والإجماع في الفقه، فيرى الإجماع في اللغة غير ملزم للمعارض، على حين يلزمه الإجماع في الفقه البتة. لكن على الإمام في اللغة إذا شاء مخالفة الجماعة والخروج عما اتفقت عليه كلمة اللغويين واتحدت أن (يناهض هؤلاء إتقاناً ويثابتهم عرفاناً ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره، فإذا فعل ذلك سُدد رأيه وشُيع خاطره- الخصائص: ١/١٩٧) .
ثار ابن مضاء على النحاة وعاف مذهبهم في (العامل) لغلوهم في التعليل واستبعد الجدل النظري والحجاج الفلسفي وكل ما ينأى باللغة عن طبيعتها وينحرف عن خصوصها، وليس هو أول من انتهج هذا النهج وذهب هذا المذهب. ذلك أنه قد عوّل على النص وأغفل القياس من هذه الجهة، لكنه قد أخذ ولا شك بنمط من القياس. فهو قد أقر (العلة) وأبى (علَّة العلَّة) أو العلل الثواني والثوالث، كما أنكرها ابن جني وعافها الزجاجي نفسه. وإقرار (العلة) يدعو إلى البحث عن العلة الجامعة والتماس القياس الذي لا بد منه، وإلا فكيف يمكن أن تنهض لغة لا يعمل قياس في رسم ضوابطها وشرح حدودها، ويمهد لها سبيل التوليد والنماء ومذاهب الاتساع والارتقاء.