للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد أحسن العلامة أحمد تيمور باشا (١) لما كشف النِّقاب عن سِرِّ اعتقاد العامَّة في الهلال، وأنَّه شعار الإسلام؛ فقد ذكر اللِّواء الذي سمَّوه بمصر (البَيرَق (٢) النَّبوي):

«وهو عَلَم كبير من الأعلام التي كانت بالقلعة، أخرجه السيد عمر مكرم نقيب الأشراف للعامَّة عند قيامهم لدفع الفرنسيس عن القاهرة، فسمَّوه بـ (البيرق النبوي)، والظاهر أنَّ بعض قادتهم اختلق لهم ذلك ليزيد في تحمُّسهم فاعتقدوه، وملخَّص خبر هذه الواقعة: أنَّ الفرنسيس لما قصدوا الاستيلاء على مصر سنة ١٢١٣ هـ؛ كان عليها والٍ عثماني ليس له من الأمر شيء على عادة وُلاتهم بها، وكان يحكمها كبيران من الجراكسة مشاركة؛ وهما: إبراهيم بك الكبير ومراد بك، والتصرُّف في أغلب الأمور لمراد بك، وكان أخرق رَهَقًا، من شرِّ أمرائهم وأضرِّهم بظلم الرعيَّة وأجبنهم عند اللقاء، فمن مساويه في ذلك: أنَّه خرج قبل مجيء الفرنسيس للتنزُّه في الريف -أي: الوجه البحري- فعاث فيه، وأفحش في القتل والنهب وإحراق القرى وتشتيت سكَّانها، ثم عاد إلى القاهرة ظافرًا مملوء الوِفَاض بالغنائم بعد أن غادر أكثر قراه يبابًا، فلم يلبث أن بلغه نبأ احتلال الفرنسيس للإسكندرية في المُحرَّم من تلك السنة، وشروعهم في الزَّحف على القاهرة، فخرج إليهم بجنوده من الجراكسة وغيرهم والتقى بهم جهة الرحمانية بالبحيرة، فلم تكن غير مناوشات هيِّنة؛ نكص فيها على عقبيه إلى جهة إمبابة بالشاطئ الغربي للنيل تجاه القاهرة وأخذ يتحصن بها، فلحقه الفرنسيس فلم يَقوَ على لقائهم، وانهزم هو وجنده في أقلِّ من ساعة وفرَّ إلى الصعيد، وفرَّ الوالي العثماني وإبراهيم بك إلى جهة الشام، وتشتَّت بقيَّة الأمراء وتركوا الشِّيَاه للذِّئاب، وكان أهالي القاهرة قاموا قيامًا محمودًا أبانوا فيه عن نخوَة وحميَّة وسخاء بالنفوس والأموال، وساروا إلى بولاق بالشاطئ الشرقي لمساعدة الجنود، فلمَّا وقعت الهزيمة؛ حوَّل الفرنسيس الرَّميَ إلى هذا الشاطئ فشتَّتوهم ودخلوا القاهرة يوم الثلاثاء العاشر من صفر.

وهذا نصُّ ما ذكره الجبرتي عن قيام الأهالي ومسيرهم بهذا العَلَم إلى بولاق قبل ذلك بأسبوع -أي: في يوم الثلاثاء ٣ صفر سنة ١٢١٣ هـ-:

«وفي يوم الثلاثاء نادَوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس، وكرَّروا المناداة بذلك كلَّ يوم، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبرِّ بولاق، فكانت كلُّ طائفة من طوائف أهل الصِّناعات يجمعون الدراهم من بعضهم، وينصبون لهم خيامًا أو يجلسون في مكان خَرِب أو مسجد، ويرتِّبون لهم قَيِّمًا يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس يتطوَّع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهِّز جماعة من المغاربة أو الشَّوامِّ بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث إنَّ جميع الناس بذلوا وُسعَهم وفعلوا ما في قوَّتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم فلم يَشِحَّ في ذلك الوقت أحد بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدَّهر، وخرجت الفقراء وأرباب الأشائر بالطبول والزُّمور والأعلام والكاسات وهم يَضِجُّون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بَيرقًا كبيرًا سمَّته العامَّة (البيرق النبوي)؛ فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله أُلوف من العامَّة بالنبابيت والعِصِيِّ يهلِّلون ويكبِّرون ويُكثِرون من الصِّيَاح، ومعهم الطُّبول والزُّمور وغير ذلك» اهـ.

قلنا: وما زال في عوامِّ المصريين من يعتقد بأن العَلَم العثماني ذا الهلال والنجم مُتَّخذ على مثال العَلَم النبوي، ولهذا تضاعف تألُّمهم لمَّا غُيِّر في مصر بالعَلَم ذي الأهلة والأنجم الثلاثة بعد إعلان انفصالها من الدولة العثمانية إبَّان الحرب الكبرى الواقعة أواخر سنة ١٣٣٢ هـ، ولعلَّ منشأ هذا الاعتقاد: ظنُّهم أنَّ شارات دولة الخلافة تُقتبس عادة من شارات نبويَّة، على أنَّهم في ذلك ليسوا بأَوغَل في الوَهم من كثير من خاصَّة المسلمين وعامَّتهم في عدِّهم الهلال رمزًا دينيًّا، له عند المسلمين ما للصليب عند النصارى، وما كان -قَطُّ- كذلك، وإنَّما حُبِّب إلى مسلمي العُصور الأخيرة وعَظُم لديهم؛ لكونه شارة للعَلَم في آخر دولة أدركوها من دولة الخلافة».


(١) في كتابه «الآثار النبوية» (ص ١٠٠ - ١٠٢).
(٢) (البيرق) لفظ تركي، وأصله في هذه اللغة (بيراق) أو (بايراق)، ومعناه: اللواء والراية. (أحمد تيمور)

<<  <   >  >>