الخصلة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْمُوَادَعَةِ، فيجوز أن يقبله منهم، ويوادعهم عليه، وهو عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْذُلُوهُ لِوَقْتِهِمْ، وَلَا يَجْعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، فَهَذَا الْمَالُ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهُ مأخوذ بإيجاف الخيل والركاب، فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَانًا لَهُمْ فِي الِانْكِفَافِ بِهِ عَنْ قِتَالِهِمْ فِي هَذَا الْجِهَادِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ جِهَادِهِمْ فِيمَا بَعْدُ. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَبْذُلُوهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيَكُونُ خراجا مستمراً، ويستقر به الأمان، والمأخوذ منهم في العام الأول وغنيمة تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَمَا يُؤْخَذُ فِي الْأَعْوَامِ المستقبلة هو فيء يُقَسَّمُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يعاد جِهَادَهُمْ مَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، لاستقرار الموادعة بالأمان عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِنْ مَنَعُوا الْمَالَ زَالَتْ الموادعة، وارتفع الأمان، ولزم جهادهم وهم كغيرهم من أهل الحرب. فإن حمل أهل الحرب هدية، ابتدأوا بها، لم يحصل لهم بالهداية عهد، وجاز حربهم بعدها، لأن العهد كناية عن عقد. الخصلة الرابعة: أن يسألوا الأمان والمهادنة.
فيجوز ذلك، عند تعذر الظفر بهم، وعند أخذ المال منهم. وقد هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قريشاً عام الحديبية عشر سنين ذكره أبو بكر في كتاب الخلاف. فإن هادنهم أكثر منها بطلت الهدنة فيما زاد. وإذا نقضوا العهد صاروا حربا، يجاهدون من غير إيذان. قَدْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ فَسَارَ إلَيْهِمْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، حتى فتح مكة عنوة. وإذا نقضوا العهد لم يجز قتل من في أيدينا من رهائنهم. ذكره أبو بكر في الخلاف - في أواخر أبواب السير- فقال: أخبرني أحمد بن الحسين قال: وجدت في كتاب أخي: حدثني المبارك بن سليمان قال " سئل أحمد بن حنبل عن قوم من المشركين، بيننا وبينهم كتاب، لا يغزونا ولا نغزوهم، ولا يقتلون لنا تاجراً، ولا نقتل لهم، ويعطونا على ذلك الرهائن. ثم إنهم نكثوا وقتلوا، فما تقول في الرهائن؟ قال: ليس عليهم شيء". وظاهر هذه منع قتلهم.