للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وجدناك برا رؤوفا بنا ... كرأمة أم وإلطافها١

وتشابه هذه القصيدة في الأغراض المشروحة فيها، والغايات المتوخاة منها، قصيدة خلف بن خليفة البكري، التي تمثلنا بها قبل قليل على وقوف يحيى بن الحضين البكري إلى جانب الخلافة، ورفضه التوقيع على الميثاق الذي أبرم بين عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج التميمي. فإن المغيرة انضم إلى نصر، واتخذ جانب الخلافة في وقت مبكر. بل منذ اللحظة الأولى التي بدأ الأزد يتصدون فيها لنصر ويناوئونه، ويسعون للعبث بولايته، وإفساد الأمر عليه، إذ وهب نفسه للذب عن نصر، ونذر قبيلته للدفاع عن الخلافة دون أن يعبأ بمحالفة قومه للأزد، أو يمالئ جديع بن علي الكرماني، لأنه استشرف أن الظرف لا يحتمل التردد والتأجيل، ولا يسمح بالمماطلة والمراوغة. وتمنى لو حذا يحيى بن الحضين البكري حذوه، وحالف نصرا، فشد من أزره، وقوى موقفه، وهو يراجع الأمويين في تغافلهم عن قبيلته، وعدم انتفاعهم لها، وقلة اعتمادهم عليها، وتجاهلهم لقيمتها، وجحودهم لخدماتها، مع أهميتها وقدرتها، ومع ما لها من الأفضال العظيمة عليهم، والمواقف الكريمة منهم.

ولكن البكريين الذين كانوا بمرو الروذ، ومرو الشاهجان، كان لهم موقف آخر من الأحداث، إذ لم يكفوا عن معارضة نصر، ولم يعزفوا عن معاونة جديع بن علي الكرماني، ولم يتمثلوا مصلحة الأمة إلا في زمن متأخر، فلم تغن مسالمتهم لنصر شيئا، ولم تجد مصافاتهم له نفعا، ولم يمنع تأييدهم له من تردي الأمر بخراسان، وانهيار الدولة الأموية. فقد تشغبت جماعة من الأزد على نصر بمرو الروذ سنة ست وعشرين ومائة، مدعين أنه لم يدفع لهم عطاءهم، فحذرهم من الفرقة، وذكرهم بأنهم "مسلحة٢ في نحور العدو"٣، فلم يهتموا لنصحه، ولم يطيعوا لرأيه، بل زادوا من عنادهم له، ومعاداتهم إياه. فتعمق الشعور بالمأساة المرتقبة نفوس بعض الشعراء


١ الرامة: العطف، وإلطاف الأم: رفقها وبرها وتحفيها وإتحافها.
٢ المسلحة: القوم الذين يحفظن الثغور من العدو، لئلا يطرقهم على غفلة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم به، ليتأهبوا له.
٣ الطبري ٩: ١٨٥٧.

<<  <   >  >>