للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

السنوات التي كانت تقطعها بالإعداد للحرب، والانهماك في قتال الأتراك. فكانت المعارك تستولي على أوقاتها، وتسيطر على عقولها وأفئدتها وقلوبها، وتشغلها عن المسابقة والمشاحنة.

ولكننا نحمل موقفه على أنه انحراف مؤقت وتخل قصير عن عقيدته، وفلسفته القبلية. فهو شاعر أزدي متعصب مغرور، كما استقام لنا بعد تحليلنا لشخصيته، وما يبدو من تغيره الطارئ يمكن أن يرد إلى انفعاله انفعالا شديدا، بانتصارات قتيبة الباهرة، لأنه "شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان"١، ومثل هذه البطولات الرائعة لا بد أن تستثيره، وتخرجه عن طوره. وهذا هو الذي حدث، فيما نرجح، فقد سحرته فتوحات قتيبة سحرا أفضى به إلى هيجان عاطفي نسي معه شخصيته وفلسفته، ولم يتذكر فيه انتماءه لقبيلته. ومما يؤيد هذا التفسير أنه حينما رجع يزيد بن المهلب واليا على خراسان للمرة الثانية. وعلم أنه غضب عليه، وأضمر شرا له، لانتقاصه إياه، هرب إلى عمان، وأخذ يرسل القصائد إليه، يعتذر فيها عما فرط منه، ويعترف بأنه أذنب ذنبا عظيما، لجهله وتسرعه ويقرر أن قتيبة الذي كان يكره المهالبة، هو الذي استعداه عليه، وأغراه بعيبه٢.

ولا بد من الإشارة إلى أن كعبا لم يفهم المديح والموازنة بين قتيبة ويزيد إلا فهما قبليا، ومن هنا انطلق يقارن بينهما مقارنة نعت الأول فيها بأنه صريح النسب، معروف العشيرة، وطعن في نسب الثاني، وسخر منه، كما وصف الأول بالفروسية، ورمى الثاني بطروئه عليها، وقلة خبرته بها. ثم نقض ما ادعاه من أن المهلب "لم يسع ساع كسعيه" وأنه "أورث مجدا لم يكن متنحلا". ورفع قتيبة عليه، زاعما أنه سبق بخيره ما قدمه الناس من خير، وفاق بشرفه ما خلفوه من شرف.

وفي سنة أربع وتسعين اقتحم قتيبة الشاش، ووصل إلى خجندة وكاشان، وهما مدينتا فرغانة، فقال سحبان وائل القيسي يصور جهاده بخجندة، وكيف أنه كان


١ الأغاني "طبعة دار الكتب" ١٤: ٢٨٣.
٢ الأغاني "طبعة دار الكتب" ١٤: ٢٩٢.

<<  <   >  >>