للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ففي هذه المقطوعة يظهر كعب الأشقري بسالة يزيد بن المهلب، وقد لقيه الترك في خمسمائة فارس، وقطعوا عليه الطريق، وهو يسير في ستين فارسا من كس بما وراء النهر، وكان أبوه يقيم بها سنتي إحدى وثمانين واثنتين وثمانين، إلى مرو الشاهجان، حيث مات أخوه المغيرة، خليفة أبيه، والقائم بأعماله. فجالدهم أشد جلاد وأعنفه، دون أن يتغلب عليهم، أو يتغلبوا عليه، ولم يزل كل فريق منهم يهاجم الآخر، ويكر عليه، حتى أسدل الظلام أستاره، تفرق الترك عنه وواصل سيره. وكعب لا يطلعنا على بطولة يزيد فحسب، وإنما يطلعنا على بطولة فرسانه، فهو يكبر فيه صلابته، ويكبر في فرسانه عزيمتهم، وكيف أنهم لم ينكصوا عن مقاتلة الترك مع كثرة عددهم، فقد صمدوا لهم، وصدقوا في منازلتهم، معرضين أنفسهم للخطر، ورامين أفراسهم على الهلاك. يقول١:

والترك تعلم إذ لاقى جموعهم ... أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما٢

بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ... غير التأسي وغير الصبر معتصما٣

نرى شرائج تغشى القوم من علق ... وما أرى نبوة منهم ولا كزما٤

وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا ... من الكريهة حتى ينتعلن دما٥

في حازة الموت حتى جن ليلهم ... كلا الفريقين ما ولى ولا هربا


١ الطبري ٨: ١٠٧٩.
٢ الشهاب: النجم بالليل. ويقال للرجل الماضي في الحرب: شهاب حرب، أي ماض فيها على التشبيه بالكواكب في مضيه.
٣ التأسي: أن يواسي بعضهم بعضا، أو أن يقتدي بعضهم ببعض.
٤ الشرائج: جمع شريج، وهي القوس المنشقة من عود انشقت منه قوس أخرى. والنبوة: التباعد والتجافي. والكزم: الهيبة من التقدم والعلق: لعلها القوس أو جعب السهام.
٥ القرح: جمع قارح، وهو الفرس الذي انتهت أسنانه. والكريهة: النازلة والشدة في الحرب. وينتعلن دما: لعله من انتعل إذا لبس النعل، أي حتى يلطخ الدم حوافرها، فيكون لها كالفعل التي تقي حوافرها الحجارة. ولعله من انتعل الثوب إذا وطئه، أي حتى يجري الدم في الأرض فيطأنه ويخضنه وفي الأصل: يبتلعن.

<<  <   >  >>