للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ب- الهجاء:

وأما الهجاء فتعددت أنواعه، لاختلاف أسبابه وغاياته. فنوع منه سلطه الشعراء على العمال المترددين المتاونين الذين كانوا ينتوون الغزو، ويتجهزون له، ويشرعون فيه، ثم يعودون مدحورين منه. وكأنما كان الشعراء بالمرصاد لهؤلاء الولاة الخائبين، يراقبون خططهم العسكرية، ونتائج معاركهم، فإذا نجحوا فيها احترموهم، وقدروا ما حققوه من مكسب حربي، ومغنم مادي، وإذا فشلوا فيها صبوا عليهم جام غضبهم، وسلقوهم بألسنة حداد، معيرين لهم، ومشهرين بهم. والأغلب أن الشعراء لم يبتغوا من هذا النوع من الهجاء الحط من قيمة مهجويهم فحسب، وإنما كانوا يبتغون منه أيضا إلهاب عزائمهم واستثارة عواطفهم، ليتلافوا أسباب ضعفهم وتقصيرهم، ويضاعفوا استعدادهم وجدهم، ويحتاطوا لكل طارئ، من أجل أن ينتصروا في المعارك اللاحقة، وليكون هجاؤهم لهم عبرة ونكالا للولاة والقادة في المستقبل.

وسبق أن أنشدنا أبياتا لمالك بن الريب التميمي هجا فيها سعيد بن عثمان بن عفان، عندما هادن الصغد، وجنح إلى مفاوضتهم، دون أن يجدد مهاجمته لهم، أو يشدد حصاره لمدينتهم١. وأنشدنا مقطوعة ثانية للشاعر الهجري هجا فيها سعيد بن عبد العزيز حينما قطع النهر، وقد تجمع الترك باشتيخن من قرى سمرقند، فحاربهم وانتصر عليهم، ثم كف عن محاربتهم خوفا وجبنا، فصالوا عليه وهزموه وأكثروا القتل في أصحابه٢.

ونضيف إلى هذين الشاهدين مقطوعتين أخريين في هجاء أمية بن عبد الله، الذي لم يفلح في غزو ما وراء النهر فلاحا كبيرا، لعجزه وتخاذله من ناحية، ولاشتغاله بإخماد فتن بكير بن وشاح التميمي من ناحية أخرى. ففي سنة سبع وسبعين تهيأ للإغارة على بخارى، وعلى موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، واجتاز النهر، فبلغته أخبار ثورة ابن وشاح عليه بمرو الشاهجان، وخلع الناس له، فقفل إلى مرو


١ الطبري ٧: ١٧٩، وفتوح البلدان ص: ٤٠٣، وياقوت ٣: ٤٨٨.
٢ أنساب الأشراف ٥: ١٦١، والطبري ٩: ١٤٣٠، وابن الأثير ٥: ٩٦.

<<  <   >  >>