للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فقد لبى قتيبة نداء ربه، وانتقل من الحياة الدنيا إلى جنات الخلد لينزل مع الأبرار والصديقين جزاء جهاده وعفته.

وصرخ نصر بن سيار صرخة مدوية حين أردي ابنه تميم في الحرب الأخيرة بين اليمنية والمضرية بمرو الشاهجان، يقول١:

نفى عني العزاء وكنت جلدا ... غداة جلا الفوارس عن تميم٢

وما قصرت يداه عن الأعادي ... ولا أضحى بمنزلة اللئيم

وفاء للخليفة وابتذالا ... لمهجته يدافع عن حريم

فمن يك سائلا عني فإني ... أنا الشيخ الغضنفر ذو الكليم٣

نمتني من خزيمة باذخات ... بواسق ينتمين إلى صميم

فعندما قتل ابنه انهد ركنه، وخارت قواه، ولم يعد به طاقة على التصبر والتجلد، وهو الشيخ الحليم الصبور، الذي عركته الأيام، وصلبته المحن. ولكن ما سلاه عنه بعض التسلية، أنه قتل قتلة مشرفة يتمناها غيره من الشبان، إذ استشهد في ساحة الوغى، ولم يغمد سيفه إلا بعد أن قاوم مقاومة الفتيان، إلى آخر رمق، انتصارا للخليفة، وحماية لعرضه وحوزته، وسرعان ما تماسك نصر أشد التماسك، وصبر أجمل الصبر، وعاد يعلن أنه الكهل الأصيل الحمول، وأنه كالأسد المتوحش إذا جرح حمي أنفه، وشمخ برأسه، وزادته الجراح حدة وقوة، واستجمع عزيمته ليثب على خصمه، ويثأر لنفسه منه.

وفارق الحياة بخراسان غير وال وشخصية بارة، فأقام الشعراء المآتم لهم باكين عليهم، وذاكرين مآثرهم، وواصفين جسامة الخسارة فيهم. وأول من توفي منهم


١ الدينوري ص: ٣٥٥.
٢ يقال للقوم إذا كانوا مقبلين على شيء محدقين به ثم انكشفوا عنه: قد افرجوا عنه وأجلوا عنه.
٣ الغضنفر: الأسد الغليظ الخلق متغضنه. والكليم: الأسد إذا طعن هاج.

<<  <   >  >>