للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المهلب بن أبي صفرة، إذ مات حتف أنفه بمرو الروذ، وهو عائد من كس بما وراء النهر إلى مرو الشاهجان. فأبنه نهار بن توسعة البكري تأبينا مؤثرا بقوله١:

ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والحزم بعد المهلب

أقام بمرو الروذ رهن ترابه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب

إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ... على الناس؟ قلناه ولم نتهيب٢

أباح لنا سهل البلاد وحزنها ... بخيل كأرسال القطا المتسرب٣

يعرضها للطعن حتى كأنما ... يجللها بالأرجوان المخضب٤

تطيف به قحطان قد عصبت به ... وأحلافها من حي بكر وتغلب

وحيا معد عوذ بلوائه ... يفدونه بالنفس والأم والأب

فهو يفرد المقطوعة للثناء عليه وتجسيم المصيبة فيه، فقد تعطلت الغارات بوفاته، وهو الذي استفرغ حياته، وأفنى عمره في الإغارة حتى فتح الفتوحات الكثيرة، وحاز الانتصارات الكبيرة، وحتى احتل المدن الجبلية، والبلدان السهلية، بطوائف الأفراس التي كان يفرقها في النواحي المختلفة، فتندفع بفرسانها لا تخاف الطعن، ولا تخشى العطب، بل تتقدم بهم نحو الأعداء، وترجع سالمة، وآثار الدماء لا تزال تصبغ هواديها وأجسادها. وانتهى الكرم المعروف بانطوائه، وأفل من سماء العرب نجم ساطع كان يضيء لهم على تعدد أحيائهم، وتباين أهوائهم، فقد كان ملاذ الأزد، وحلفائهم من بكر وتغلب، كما كان ملجأ مضر وقيس.

والمبالغة في نعيه له، وإطرائه عليه واضحة، وهي لا تنبثق من منجزاته العسكرية الضخمة، لأن المهلب لم يحرز هذه الانتصارات العظيمة، وإنما تنبثق من تحيز نهار له، وهو حليف الأزد الذي تقوى بقوتهم، وتضعف بضعهم.


١ التعازي والمراثي ص: ١٣٥، والطبري ٨: ١٠٨٤، وابن الأثير ٤: ٤٧٦، ووفيات الأعيان ٤: ٤٣٥، وسنشير إليه بابن خلكان.
٣ قلناه: أي قلنا: هو.
٣ الأرسال: جمع رسل، أي قطيع بعد قطيع.
٤ الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.

<<  <   >  >>