جذوره القبلية الجاهلية، ووصلته بحاضرهم ووجودهم بخراسان، إذ تمدحوا فيه بمواقف قبائلهم العملية من مصير العرب عامة، وبدفاعهم المر عن كيانهم ومستقبلهم. ولما كانت أشعارهم في جملتها وليدة الأحداث الطارئة، والغزوات المفاجئة، فقد غلبت المقطوعات عليها، وقلت المطولات فيها، ونشأ عن ذلك أن أهدروا أكثر التقاليد الفنية المرعية عند الشعراء الرسميين، كالمقدمة، ووصف الناقة والصحراء، وتصوير مناظر الصيد، سوى قصائد قليلة احتفظوا فيها بالمقدمة الغزلية والمقدمة الطللية، ولكنهم تحولوا بالمقدمة الأولى إلى ما يشبه مقدمة الفروسية والبطولة، وبالمقدمة الثانية إلى ما يشبه مقدمة الحنين إلى الوطن والأهل بالبصرة.
وخصصت الفصل الثالث لشعراء القبائل العربية بخراسان فترجمت فيه لستة من مشاهيرهم وأعلامهم وهم ثابت قطنة، وكعب الأشقري وهما أزديان كانا متحزبين للأزد تحزبا حادا، ونهار بن توسعة البكري، وكان بدوره متعصبا لبكر تعصبا جامحا، والمغيرة بن حبناء وحاجب بن ذبيان، وهما تميميان، كان أولهما أكثر شعراء القبائل اعتدالا واتزانا وتجردا من العصبية، وكان ثانيهما مترددا متحزبا، وزياد الأعجم، وهو وإن بدا أنه كان متشبثا بولائه للعبديين، حريصا على الذب عنهم، فإنه جعل غايته من شعره الاتجار به، كما كان قلقا هجاء خبيثا، وربما كان هدفه من لجاجته في هجاء الأمراء والشعراء العرب السخرية منهم، والإذلال لهم.
وكان التخطيط النظري الأولي يقتضي أن أترجم لشاعر من قيس، غير أنني لم أظفر بشاعر قيسي كبير، له شعر كثير، ومصدر ذلك أن قيسا لم تكن تقارب في ضخامتها سائر القبائل، ومما يقطع بذلك أنها لم تقو على منع عبد الله بن خازم السلمي من اغتيال بني تميم له، وأنها لم تتمكن من المحافظة على حياة قتيبة بن مسلم الباهلي، حين تآمرت بقية القبائل عليه، كما أن شعراءها الكبار لم يهاجروا إلى خراسان، ولذلك كان أكثر شعرائها هناك مقلين، ليس لكل منهم سوى مقطوعة أو مقطوعتين، أو قصيدة طويلة.
وقد حرصت على أن أجمع في تراجم أولئك الشعراء كل أخبارهم، وأن أتتبع جميع أشعارهم، حتى أتبين شخصياتهم تبينا صحيحا، وحتى أستظهر استظهارا