للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَدْفَعُ قُوَّةُ تَوَكُّلِهِ قُوَّةَ الْعَدْوَى، كَمَا تَدْفَعُ الطَّبِيعَةِ قُوَّةَ الْعِلَّةِ فَتُبْطِلُهَا، وَبَعْضُ النَّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتَّحَفُّظِ، وَكَذَلِكَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا، لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمَّةُ فِيهِمَا، فَيَأْخُذَ مَنْ قَوِيَ مِنْ أُمَّتِهِ بِطَرِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَالْقُوَّةِ وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَيَأْخُذَ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التَّحَفُّظِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ، وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، فَتَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُجَّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا يُنَاسِبُهُمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى، وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيِّ، وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتَّوَكُّلِ، وَتَرَكَ الطِّيَرَةَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقَّهَا، وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا، أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنُّهُ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.

وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ، وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيٍّ، وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرَّائِحَةِ إِلَى الصَّحِيحِ، وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ، وَأَمَّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنَ الزَّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، فَنَهَى سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَحِمَايَةً لِلصِّحَّةِ، وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ الَّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنَ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ، وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلُّهُمْ سَوَاءً، وَلَا الْعَدْوَى حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرُّ مُخَالَطَتُهُ، وَلَا تُعْدِي، وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، ثُمَّ وَقَفَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ يُعْدِ بَقِيَّةَ جِسْمِهِ، فهو أن يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: إِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي، وَنَهَى عَنِ الْقُرْبِ مِنْهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مُفْضِيَةً إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، فَفِي نَهْيِهِ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَفِي فِعْلِهِ بَيَانُ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِشَيْءٍ، بَلِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا، فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثَّرَتْ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَيُنْظَرُ فِي تَارِيخِهَا، فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهَا، حُكِمَ بِأَنَّهُ النَّاسِخُ، وَإِلَّا توقفنا فيها.

<<  <   >  >>