للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَسْكَنِ

لَمَّا عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَرْحَلَةُ مُسَافِرٍ يَنْزِلُ فِيهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهَا إِلَى الْآخِرَةِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُ الِاعْتِنَاءُ بِالْمَسَاكِنِ وَتَشْيِيدِهَا، وَتَعْلِيَتِهَا وَزَخْرَفَتِهَا وَتَوْسِيعِهَا، بَلْ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ مَنَازِلِ الْمُسَافِرِ تَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَتَسْتُرُ عَنِ الْعُيُونِ، وَتَمْنَعُ مِنْ وُلُوجِ الدَّوَابِّ، وَلَا يُخَافُ سُقُوطُهَا لِفَرْطِ ثِقَلِهَا، وَلَا تُعَشِّشُ فِيهَا الْهَوَامُّ لِسِعَتِهَا وَلَا تَعْتَوِرُ عَلَيْهَا الْأَهْوِيَةُ وَالرِّيَاحُ الْمُؤْذِيَةُ لِارْتِفَاعِهَا، وَلَيْسَتْ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُؤْذِي سَاكِنَهَا، وَلَا فِي غَايَةِ الِارْتِفَاعِ عَلَيْهَا، بَلْ وَسَطٌ، وَتِلْكَ أَعْدَلُ الْمَسَاكِنِ وَأَنْفَعُهَا، وَأَقَلُّهَا حَرًّا وَبَرْدًا، وَلَا تَضِيقُ عَنْ سَاكِنِهَا، فَيَنْحَصِرُ، وَلَا تَفْضُلُ عَنْهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ، فَتَأْوِي الْهَوَامُّ فِي خُلُوِّهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كُنُفٌ تُؤْذِي سَاكِنَهَا بِرَائِحَتِهَا، بَلْ رَائِحَتُهَا مِنْ أَطْيَبِ الرَّوَائِحِ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ، وَلَا يَزَالُ عِنْدَهُ، وَرِيحُهُ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الرَّائِحَةِ، وَعَرَقُهُ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ كَنِيفٌ تَظْهَرُ رَائِحَتُهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْدَلِ الْمَسَاكِنِ وَأَنْفَعِهَا وَأَوْفَقِهَا لِلْبَدَنِ، وَحِفْظِ صِحَّتِهِ.

فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النوم واليقظة

من تدبر وَيَقَظَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدَهُ أَعْدَلَ نَوْمٍ، وَأَنْفَعَهُ لِلْبَدَنِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى، فَإِنَّهُ كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَسْتَيْقِظُ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي، فَيَقُومُ وَيَسْتَاكُ، وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، فَيَأْخُذُ الْبَدَنُ وَالْأَعْضَاءُ، وَالْقُوَى حَظَّهَا مِنَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ، وَحَظَّهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ مَعَ وُفُورِ الْأَجْرِ، وَهَذَا غَايَةُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنَ النَّوْمِ فَوْقَ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ من القدر

<<  <   >  >>