للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ قَالَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ

وَفِي قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» مِنْ تَحْقِيقِ الرَّجَاءِ لِمَنِ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالتَّضَرُّعُ إِلَيْهِ، أَنْ يَتَوَلَّى إِصْلَاحَ شَأْنِهِ، وَلَا يَكِلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ مِمَّا لَهُ تَأْثِيرٌ قَوِيٌّ فِي دَفْعِ هَذَا الدَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ» ، فَفِيهِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَسْرَارِ الْعُبُودِيَّةِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ كِتَابٌ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيَّتِهِ وَعُبُودِيَّةِ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ، وَأَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِهِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ دُونَهُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً، وَلَا نُشُورًا، لِأَنَّ مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، بَلْ هُوَ عَانٍ فِي قَبْضَتِهِ، ذَلِيلٌ تَحْتَ سُلْطَانِ قَهْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: «مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ «مُتَضَمِّنٌ لِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ التَّوْحِيدِ.

أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الْقَدَرِ، وَأَنَّ أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي عَبْدِهِ مَاضِيَةٌ فِيهِ، لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهَا، وَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، غَيْرُ ظَالِمٍ لِعَبْدِهِ، بَلْ لَا يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ مُوجَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ سَبَبُهُ حَاجَةُ الظَّالِمِ، أَوْ جَهْلُهُ أَوْ سَفَهُهُ، فَيَسْتَحِيلُ صُدُورُهُ مِمَّنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَمَنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، فَلَا تَخْرُجُ ذَرَّةٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ عَنْ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ، كَمَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَحِكْمَتُهُ نَافِذَةٌ حَيْثُ نَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَلِهَذَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ هُودٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَوَّفَهُ قَوْمُهُ بِآلِهَتِهِمْ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «١» ، أَيْ: مَعَ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ آخِذًا بِنَوَاصِي خَلْقِهِ


(١) هود- ٥٤- ٥٧

<<  <   >  >>