قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التُّرَابَ وَالْمَاءَ إِذَا اخْتَلَطَا فَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ حَرَارَةٍ تَقْتَضِي طَبْخَهُمَا وَامْتِزَاجَهُمَا، وَإِلَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرَ مُمَازِجٍ لِلْآخَرِ، وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَلْقَيْنَا الْبَذْرَ فِي الطِّينِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْهَوَاءُ وَلَا الشَّمْسُ فَسَدَ، فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي الْمُرَكَّبِ جِسْمٌ مُنْضِجٌ طَابِخٌ بِالطَّبْعِ أَوْ لَا، فَإِنْ حَصَلَ، فَهُوَ الْجُزْءُ النَّارِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ، لم يكن المركب مسخنا بطبعه، بل بَلْ إِنْ سَخَّنَ كَانَ التَّسْخِينُ عَرَضِيَّا، فَإِذَا زَالَ التَّسْخِينُ الْعَرَضِيُّ، لَمْ يَكُنِ الشَّيْءُ حَارًّا فِي طَبْعِهِ، وَلَا فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَكَانَ بَارِدًا مُطْلَقًا، لَكِنْ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ مَا يَكُونُ حارا بالطبع، فعل أَنَّ حَرَارَتَهَا إِنَّمَا كَانَتْ، لِأَنَّ فِيهَا جَوْهَرًا نَارِيًّا.
وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ مُسَخِّنٌ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي نِهَايَةِ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِلْبَرْدِ، وَكَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الْمُعَاوِنِ وَالْمُعَارِضِ، وَجَبَ انْتِهَاءُ الْبَرْدِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَصَلَ لَهَا الْإِحْسَاسُ بِالْبَرْدِ، لِأَنَّ الْبَرْدَ الْوَاصِلَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ فِي الْغَايَةِ كَانَ مِثْلَهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَنْفَعِلُ عَنْ مِثْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَنْفَعِلْ عَنْهُ لَمْ يَحُسَّ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحُسَّ بِهِ لَمْ يَتَأَلَّمْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَعَدَمُ الِانْفِعَالِ يَكُونُ أَوْلَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ مُسَخِّنٌ بِالطَّبْعِ لَمَا انْفَعَلَ عَنِ الْبَرْدِ، وَلَا تَأَلَّمَ بِهِ. قَالُوا: وَأَدِلَّتُكُمْ إِنَّمَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْأَجْزَاءُ النَّارِيَّةُ بَاقِيَةٌ فِي هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ عَلَى حَالِهَا، وَطَبِيعَتِهَا النَّارِيَّةِ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ صُورَتَهَا النَّوْعِيَّةَ تَفْسُدُ عِنْدَ الِامْتِزَاجِ.
قَالَ الْآخَرُونَ «لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ إِذَا اخْتَلَطَتْ، فَالْحَرَارَةُ الْمُنْضِجَةُ الطَّابِخَةُ لَهَا هِيَ حَرَارَةُ الشَّمْسِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُرَكَّبُ عِنْدَ كَمَالِ نضجه مستعد لقبور الْهَيْئَةِ التَّرْكِيبِيَّةِ بِوَاسِطَةِ السُّخُونَةِ نَبَاتًا كَانَ أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَعْدِنًا، وَمَا الْمَانِعُ أَنَّ تِلْكَ السُّخُونَةَ وَالْحَرَارَةَ الَّتِي فِي الْمُرَكَّبَاتِ هِيَ بِسَبَبِ خَوَاصَّ وَقُوًى يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِزَاجِ لَا مِنْ أَجْزَاءٍ نَارِيَّةٍ بِالْفِعْلِ؟ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى إِبْطَالِ هَذَا الْإِمْكَانِ الْبَتَّةَ، وَقَدِ اعْتَرَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَطِبَّاءِ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ إِحْسَاسِ الْبَدَنِ بِالْبَرْدِ، فَنَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْبَدَنِ حَرَارَةً وَتَسْخِينًا، وَمَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ؟ لَكِنْ مَا الدَّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ الْمُسَخِّنِ فِي النَّارِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute