فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة؛ فصوّروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري..» ، وما يلبث دينييه أن يضرب مثلا معاكسا فيقول: «ما رأي الأوربيين في عالم من أقصى الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرّخي الفرنسيين ويمحّصها بمنطقه الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشليو) كما نعرفها ليعيد إلينا (ريشيليو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطبعه؟ إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويخيّل إلينا أننا نسمع محمدا يتحدّث في مؤلّفاتهم إما باللهجة الألمانيّة أو الإنكليزيّة أو الفرنسية ولا نتمثّله قط، بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّث عربا باللغة العربية» ، وينتهي المستشرق الفرنسي- الذي أعلن إسلامه- إلى القول:«إن صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد»«١» .
ويشير الدكتور جواد علي إلى أن كيتاني، وهو من كبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا معكوسا في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه، إذ إنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعد ما دون ذلك، فلقد كان كيتاني (ذا رأي وفكرة) وضع رأيه وفكرته في السيرة قبل الشروع في تدوينها فإذا شرع بها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيّما ما يلائم رأيه، ولم يبال في الخبر الضعيف بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة، وبنى حكمه عليه، ومن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة