مهما يكن من أمر فإن (وات) إذا كان قد قدر على اتخاذ موقف حيادي من مسألة الصراع بين المسيحية والإسلام (على الرغم من أن هذا الاستنتاج ليس صائبا بشكل نهائي كما سنرى) ؛ فإنّه لم يستطع الفكاك من نقاط الشد الآخرى التي تمسك بتلابيب العقل الغربي: النزوع العلماني والمسلمات المادية والرؤية الوضعية، والانحسار على المنظور واعتقاد القدرة على إخضاع كل ظاهرة تاريخيّة أو بشريّة لمقولات التحليل العقلي الخالص، حتى ولو كانت (غيبية) تند عن التعليل والتحليل.
إن (وات) هو ابن الحضارة الغربية ولن يستطيع الرجل بسهولة أن ينشق على مواضعات البيئة التي شكلت عقله.. ولكنه- مرة أخرى- يعد أكثر قدرة على (التحرر) من معظم زملائه المستشرقين الذين عاصروه أو سبقوه على الطريق.
[٢]
والآن يجب أن نختبر بحثه (محمد في مكة) لوضع اليد على عناصر الخلل المنهجي فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات: إسقاط الرؤية العقلية المعاصرة على التاريخ.. منذ البداية، ولما يمض سوى أسطر معدودات على إعلانه الحياد في مقدّمته يتّخذ من القرآن- كمصدر لدراسة العصر المكي- موقفا يفهم منه اثنتان، أولاهما: عدم اطمئنانه إلى موضوعية روايات القرآن التاريخية، وثانيتهما: أن الشك يحوم حول كثير من النتائج بهذا الصدد!!
فهو يقول، ولمّا يزل بعد في المقدمة: «جرت العادة بعض الوقت بأنّ القرآن هو المصدر الرئيسي لفهم الفترة المكّية، ولا شك أن القرآن معاصر لتلك الفترة، ولكنه متحيّز ناهيك بصعوبة تحديد التسلسل الزمني لمختلف أجزائه، وما يحوم حول كثير من النتائج من شكّ، فهو لا يمدّنا بأي شيء يمكن أن يكون لوحة كاملة لحياة محمد والمسلمين خلال الفترة المكية.