للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

[٥ - مفهوم الموعظة الحسنة في الدعوة]

هي النصح والتوجيه والتذكير بالعواقب بأسلوب لطيف محبّب، وبطريقة مقبولة وكما أن الحكمة في القول مطلوبة، فإن الموعظة أسلوب من أساليب حكمة القول، وقد وردت إشارات إلى تطبيقات الموعظة في آيات عديدة، من ذلك ما ساقه الأنبياء لأقوامهم ينذرونهم ويحذرونهم خشيةً عليهم من العذاب:

فهذا شعيب يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [سورة هُود: ٨٤]

فقد ناداهم متحبباً إليهم بقوله: {يا قوم}: أي يا عشيرتي أنا منكم وأنتم مني .. !، وبعد أن جذبهم إليه بهذا النّداء الحاني بدأ بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته والاستقامة على أمره، واختتم نُصحه بعبارةٍ لطيفة تجذب القلوب وتهزّه هزاً عنيفاً فقال لهم: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ .. ، وهل يخاف عليك إلا من أراد الخير والسعادة لك ... ؟! "وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ" فأنا أشفق عليكم وأخشى أن يَحِلَّ بِكم عذابُ يومٍ يُهلككم جميعاً في الدنيا، ويحيط بكم في الآخرة.

كيف طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم الموعظة الحسنة في دعوته

ولننظر لهذا المشهد الجليل الذي يرسم للداعية المنهج القويم في دعوته .. ، بينما هو جالس ذات يوم بين كوكبة من أصحابه الكرام إذا بشاب يدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ونار الشهوة تتأجج في أضلاعه، والغريزة الجنسية قد تغلّبت على نفسه وعقله وقلبه. ويقول بأعلى صوته: يا رسول الله " اِئْذَنْ لِي بِالزِّنَا، اِئْذَنْ لِي بِالزِّنَا "، يالها من كلمة .. !! كيف َجرُؤَ الشاب أن يُقدِم على قولها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف تجرَّأ أن يُقدِم على قولها بين يدي قائد المسلمين ورسول رب العالمين؟! ثار الجالسون .. ، غضب الصحابة الكرام، همّوا بزجره وطرده .. لكن صاحب الخلق العظيم قال لهم: دعوه وخلّو بيني وبينه، وقال للشاب: "اُدْنُ يا هذا" أي: اقترب.

تعال إلى جوار من قال فيه ربّه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فأدناه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرَّبه. وقَالَ له برفق ولين يا هذا:

«أَتُحِبُّهُ لأِمِّكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأِمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»،

قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لأِخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأِخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ».

وإذا بالحبيب يمد يده الشريفة الكريمة التي ملئت رحمة وعطفاً وحناناً وخوفاً على صدر ذلك الشاب ويدعو الله قائلاً: «اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» [مسند الإمام أحمد بن حنبل ٣٦/ ٥٤٥].

ثلاث دعوات مباركات تَفَتَّحَتْ لها أبواب السماوات. ثلاث دعوات نحن بحاجة أن نصدقَ الله في دعائنا بها لشبابنا وبناتنا، فتلهج الألسن مع القلوب صباح مساء إلى ربِّ الأرض والسماء بأن يغفر الله ذنبهم وأن يطهِّر قلوبهم، وأن يحصن فروجهم.

فقام الشاب من بين يدي رسول الله وهو يقول: "والله ما برحت مكاني إلا وكان الزنا من أبغض الأشياء إلى قلبي "

نعم إنها أثر الموعظة الحسنة الرفيقة الرقيقة في القلوب، أما الشّدة والغلاظة في الدعوة فهو تقَسِّي القلوب، وتَسُدُّ طرق الهداية، بل ربما كان الداعية بأسلوبه سبب شقاية لا هداية. كما قال النبي: "إنَّ منكم مُنَفِّرِين " [صحيح البخاري برقم: ٦٧٢]

<<  <   >  >>