وكانت البليَّة العظمى والرَّزية الكبرى قِلَّة العلماء وتقاعدهم عن نصر الحق، ما بين خوَّار يخاف الناس أشدَّ من خوف الله، وجبّارٍ يرغب في الشُّهرة والسُّمعة والجاه، ومفتون بحبِّ الحُطام وخوف الفِطام، وآخر وآخر لا نطيل بذكرهم، ولا نبالغ الآن في هتك سترهم.
لا جرم اتخذ الناس رؤساء في الدِّين جهَّالًا، فلم يألوا أنفسهم وغيرهم خبالًا، فلا يكاد يُرى لهم رادع، ولا لأنوفهم جادع، بل ولا قادع.
إذا غابَ ملَّاحُ السَّفينةِ وارْتَمَتْ ... بها الرِّيح يومًا دبَّرَتْها الضَّفادِعُ (١)
وخلا الجو للملحدين وأعداء الدين، فبالغوا في العَيْث والعَبَث، ودفنوا المحض، ونشروا الخبث، وكان ما كان، والله المستعان.
وبعد، فإني ــ ولله الحمد والمِنَّة ــ ممَّن أوتي نصيبًا من فهم الكتاب، ومعرفة السُّنة، وعلمتُ أنَّ لله عز وجل عليَّ حقًّا في النصيحة للدِّين والعباد، والدعاء إلى سبيل الرشاد، ولكنَّه يثبِّطني عن ذلك خَوَر العزيمة، والحرص على مصالح الدُّنيا الذَّميمة، وزعمي أنَّه إنَّما يصلح للنصيحة من خَلَت
(١) لم أقف على قائله. وقد أنشده الناصري في "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" (٦/ ٦٧) دون نسبةٍ لقائلٍ، وعنده: "فارتمت" بدل "وارتمت"، و"هوجًا" بدل "يومًا".