للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غير المنبور، وبذلك يتسرب مقدار أكبر من الهواء، وكذلك يلاحظ مع الصوت المنبور نشاط في أعضاء النطق الأخرى، كأقصى الحنك واللسان، والشفتين" (١).

وهذا الوصف للنبر إنما يدل على مدى صعوبة نطق الهمزة، وقد أدرك القدماء هذه الحقيقة عن الهمزة، فعبر غير واحد عن ثقلها وصعوبتها في النطق، يقول ابن جني: "وإنما لم تجتمع الفاء والعين، ولا العين واللام همزتين؛ لثقل الهمزة الواحدة لأنها حرف سَفَلَ في الحلق، وبَعُدَ عن الحروف وحصل طَرَفَاً، فكان النطق به تكلفا، فإذا كُرِهَت الهمزة الواحدة، فهم باستكراه الثنتين ورفضهما ـ لا سيما إذا كانتا مصطحبتين غير مفترقتين فاء وعينا أو عينا ولاما ـ أحرى فلهذا لم تأت في الكلام لفظة توالت فيها همزتان أصلان البتة" (٢).

ويقول ابن يعيش: "الهمزة حرف شَدِيدٌ مُسْتَثْقَلٌ من أقصى الحَلْقِ، إِذْ كَانَ أَدْخَلَ الحروف في الحلق، فاسْتُثْقِلَ النُّطْقُ به، إِذْ كَانَ النطقُ به كالتَّهَوُّعِ؛ فلذلك الاسْتِثْقَال سَاغَ فيها التخفيفُ، وهي لغة قريش وأكثر أهل الحجاز، وهو نوع استحسان لِثِقَلِ الهمزة، والتحقيق لغة تميم وقيس، قالوا: لأن الهمزة حرف فوجب الإتيان به كغيره من الحروف" (٣).

ويطمئن الدارس إلى أنه إذا كان أهل الصحراء قد اضطروا إلى الهمز بحكم بيئتهم، فإن أهل الحواضر قد عملوا على التخلص من الهمز؛ لانتفاء الحاجة إليه لأنهم يعيشون غالب أوقاتهم في حيز محدود وفرته لهم طبيعة مساكنهم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لصعوبة النطق بها، فأهل الحضر دائما يميلون إلى السهولة واليسر.

وإذا كان هذا هو التوجه العام الذي يضبط الهمز، فلا ينبغي أن يُعْتَقَدَ فيه صرامة القوانين العلمية التي تضبط كل أفراد جنسها، بل وُجِدَتْ له اختراقاتٌ كأن تجد الهمز عند بعض ساكني الحواضر، وكذلك العكس: التسهيل عند بعض ساكني البوادي وخير دليل على هذا قول ابن عطية: "فأما الهمز فمن العرب من يستعمله، وهم تميم ومن يوافقها في ذلك، ومنهم من يَقِلُّ استعمالهم له، وهم


(١) الأصوات اللغوية لإبراهيم أنيس: ١١٨.
(٢) سر صناعة الإعراب لابن جني: ١/ ٧١.
(٣) شرح المفصل: ٩/ ١٠٧.

<<  <   >  >>