للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا المعنى العظيم الذي اتفق عليه هؤلاء المصلحون وغيرهم لم يأت من فراغ، فنموذج الجيل الأول يؤكده .. هذا الجيل عندما أحسن أبناؤه التعامل مع القرآن، وحين استقبلته قلوبهم الاستقبال الصحيح كانت النتيجة سريعة ومذهلة ... سيادة الأرض في سنوات قليلة.

إنهم صُنعوا ها هنا:

فإن كان التحقق بالإيمان والربانية هو أهم صفات جيل التمكين، فليس عجبًا أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم قد تحققت فيهم هذه الصفة على خير ما يكون، وأن يكون السبب الرئيس في هذا هو القرآن، ولقد تحدث الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - عن هذا الأمر كثيرًا في كتاباته، ومن ذلك ما قاله في آخر كتبه «مقومات التصور الإسلامي»:

«لقد كنت وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أدرك كيف تم هذا؟!

كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم، ولكني لم أكن أدرك كيف تم هذا حتى عدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه الأصيل: تجلية حقيقة الألوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها.

وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله!

أدركت - ولا أقول أحطت - سر الصناعة!

عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صنع!

إنهم صُنعوا ها هنا! صنعوا بهذا القرآن! بهذا المنهج المتجلى فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء! ويتكيف بها كل شيء ..

بهذا كله وجدت - في الأرض وفي دنيا الناس- حقيقة «الربانية» متمثلة في أناس من البشر ..

وُجد «الربانيون» الموصولون بالله، العائشون بالله، ولله، والذين ليس في قلوبهم وليس في حياتهم إلا الله ..

وحينما وجدت حقيقة «الربانية» هذه في دنيا الناس، ووجد الربانيون الذين هم الترجمة الحية لهذه الحقيقة .. حينئذ انساحت الحواجز الأرضية، والمقررات الأرضية، والمألوفات الأرضية .. ودبت هذه الحقيقة على الأرض .. وصنع الله ما صنع في الأرض وفي حياة الناس بتلك الحفنة من العباد.

وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه، وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الأحداث والأشياء .. ووجد الواقع الإسلامي الجديد، وولد معه الإنسان الحقيقي الجديد» (١) ..

[القرآن مخرجنا]

من هنا نقول بأنه إذا كان القرآن قد صنع الجيل الأول، فإنه قادر بإذن الله أن يصنع أجيالاً وأجيالاً ربانية جديدة، وأن يخرج الأمة من أزمتها، ويعيد لها مكانتها.

وليس هذا الكلام من قبيل الأماني والأحلام بل هو حقيقة أكدها التاريخ، وأخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث حذيفة بن اليمان حين أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سيحدث من اختلاف وفرقة بعده. قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك، قال: «تعلَّم كتاب الله عز وجل، واعمل به فهو المخرج من ذلك».

قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثًا، فقال صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: «تعلَّم كتاب الله عز وجل واعمل به فهو النجاة» (٢).

وخطب صلى الله عليه وسلم في مرجعه من حجة الوداع، فكان مما قال: «كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به، كان على الهدى، ومن أخطأه ضل» (٣).

وخرج يوما صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم جلوس ينتظرونه، فلما خرج عليهم جلس معهم وقال: «أبشروا ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتشهدون أني رسول الله؟ وتشهدون أن هذا القرآن من عند الله؟».

قالوا: نعم نشهد على هذا.


(١) مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب ص ١٩٢، ١٩٤ باختصار.
(٢) رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان والألباني، وحسنه الأرناؤوط وغيرهم.
(٣) رواه مسلم حديث (٦١٧٧).

<<  <   >  >>