[البداية الصحيحة]
إن الإيمان بقيمة الشيء - أي شيء - هو الذي يولد الانبهار به، والاستسلام له، وفتح منافذ الاستماع والتلقي منه، و العكس صحيح فعدم الإيمان بالشيء يدفع لإغلاق منافذ الاستماع له، وعدم الاكتراث به.
بمثل هذا تحدث عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: { ... قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ٤٩].
أرأيت أخي القارئ بماذا ختمت الآية؟!
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}، فإن لم تكونوا مؤمنين بي كرسول فلن تستقبلوا هذه الآيات استقبالا صحيحًا.
ونفس الأمر بالنسبة للقرآن فإن لم يزدد الإيمان بقيمة القرآن، وبالهدف من نزوله، وبأنه قادر - بإذن الله - على انتشالنا من الضياع والوحل الذي نغوص فيه ... إن لم يحدث هذا فإن أي كلام يقال عن تدبر القرآن، والتمهل في حفظه، وضرورة التخلق بأخلاقه لن يجد الاستجابة الكافية في نفوس مستمعيه ..
ويؤكد صاحب الظلال على هذا المعنى في تفسيره لقوله تعالى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٨٨] فيقول:
الرسول صلى الله عليه وسلم نذير وبشير للناس جميعا. ولكن الذين «يُّؤْمِنُونَ» هم الذين ينتفعون بما معه من النذارة والبشارة، فهم الذين يفقهون حقيقة ما معه، وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به.
إن الكلمة لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه، ولا يكشف أسراره، ولا يعطي ثماره، إلا لقوم يؤمنون.
ولقد ورد عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن .. » وهذا الإيمان هو الذي كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق، ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الإدراك، ويصنعون به تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من الزمان.
ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان، فلقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان (١).
من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة للانتفاع بالقرآن هي العمل على زيادة الإيمان به في القلوب. فكما مر علينا قول الإمام البخاري: لا يجد طعمه إلا من آمن به.
فكلما ازداد الإيمان والثقة في قيمة القرآن وأثره العظيم في الشفاء والتغيير، ازدادت الرغبة في الإقبال عليه، والانجذاب نحوه، والانشغال به.
(١) في ظلال القرآن ٣/ ١٤١٠.