للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل هذا وغيره يتردد بين الكثير من المسلمين، مما جعل أمر العودة الحقيقية إلى القرآن، والانتفاع به لحل مشكلتنا الإيمانية من الصعوبة بمكان.

ولكن حيث أنه لا بديل للأمة عن هذا الحل، فلا بد أن يستمر ويستمر التذكير بقيمة القرآن، وبالهدف الأسمى لنزوله، والذي لو اتضح أمامنا بصورة جلية، وأصبح إيمانًا مستقرًا في قلوبنا، فإنه - بلا شك - سيولد داخلنا الدافع القوي للإقبال على القرآن بصورة صحيحة لنلتمس منه الهدى والنور، أو بمعنى آخر، سيتحول اهتمامنا نحو تحقيق الهدف الذي من أجله نزل القرآن، وسنطوع الوسائل المختلفة - من قراءة وسماع وحفظ - لتحقيق هذا الهدف، فالإيمان بالقرآن والثقة الكبيرة فيه كمصدر متفرد للهداية والإيمان والتغيير هو نقطة البداية الصحيحة نحو العودة الحقيقية إليه، والانتفاع به.

فكما يقول الإمام البخاري: لا يجد طعمه إلا من آمن به (١).

ويقول مالك بن دينار: أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه (٢).

فالذي يؤمن بالقرآن لا يسعه إلا أن يتعامل معه تعاملا صحيحًا {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: ١٢١].

هذا التعامل الصحيح لابد وأن يظهر أثره في السلوك كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» (٣).

فإن قلت: ولكننا نؤمن بالقرآن ومع ذلك لا نجد طعمه ولا تأثيره في السلوك.

ليس المقصد من الإيمان بالقرآن هو مجرد الإيمان بأنه «كلام الله، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته» (٤). بل المقصد - بالإضافة لهذا-: الإيمان بقيمته وعظيم شأنه، وأنه نزل من السماء ليهدي الناس إلى الله، ويأخذ بأيديهم إليه {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: ٨].

بهذا الإيمان تعامل الصحابة مع القرآن. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لقد عشنا برهة من الدهر وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيُتَعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ من بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، وينثره نثر الدقل (٥) - وفي رواية: (وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي وتتعظ بمواعظي) (٦).

ويؤكد على هذا المعنى الصحابي جُندب بن عبد الله رضي الله عنه بقوله:

كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حَزاورة (٧) فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا (٨).


(١) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص ٢٠٥.
(٢) الدر المنثور للسيوطي ٦/ ٢٩٨.
(٣) رواه الترمذي في فضائل القرآن ح (٢٩١٨).
(٤) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص ٢١.
(٥) الدقل: ردئ التمر.
(٦) رواه الحاكم في المستدرك ١/ ٩١، وقال صحيح على شرط الشيخين.
(٧) حزاورة جمع حزير أي ممتلئ القوة.
(٨) رواه ابن ماجه والبيهقي، وانظر فضائل القرآن للمستغفري ١/ ٢٧٥.

<<  <   >  >>