للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعندما قال له البعض: يا رسول الله غلا السِّعر، فَسَعِّر لنا، فقال: «إن الله تعالى الخالق، القابض، الباسط، الرزاق، المُسَعِّرُ .. » (١).

فإذا ما نظرنا لجيل الصحابة- رضوان الله عليهم- نجد أن هذا المعني كان حاضرا في حياتهم بشكل أساسي، فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلته المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين، ليرىن الله ما أصنع» (٢)

وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي وهو يقص على من حوله قصة إسلامه، وكيف أنه بعد أن ذهب إلى مكة وحذره المشركون من سماع محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يفتنه، ويسحره بكلامه، فيقول: فوالله ما زالوا يحدثوني في شأنه، وينهوني عن أن أسمع منه، حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلا وأنا ساد أذني.

قال: فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفا- أي قطنا- ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً في المسجد، فقمت قريبا منه، وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله (٣) ...

وعندما خرج عبد الله بن عتيك في سرية مع بعض الصحابة لقتل اليهودي

أبي رافع- سلام بن أبي الحقيق- في حصن خيبر، ودخل ابن عتيك الحصن، ووصل إلى أبي رافع وقتله، ثم عاد إلى أصحابه يبشرهم، ويحثهم على سرعة الخروج من المكان إذا به يقول لهم: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع (٤).

وهذه زنيرة الرومية يعذبها أبو جهل وعمر بن الخطاب- قبل إسلامه- حتى فقدت بصرها، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى هما اللذان أذهبا بصرك، فماذا قالت له وهي في هذه الحال الصعبة التي قد تفتن أقوى الأنفس؟؟

قالت: «وما تدري اللات والعزي من يعبدها، ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري» وبالفعل رد الله بصرها، فقالا: لقد سحرها محمد.

وهذه حفصة رضي الله عنها تقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة ببلد نبيك صلى الله عليه وسلم» قالت: فقلت: وأنَّي يكون هذا؟! قال: يأتي به الله إذا شاء (٥).

[هل نترك الأسباب؟!]

ليس معنى أن الله عز وجل هو الذي يبث الفاعلية في الأسباب، وأنها لا قيمة لها بدون إمداده أن نترك الأخذ بالأسباب، ونتجه مباشرة إلى الله عز وجل من أجل الحصول على النتائج، فهذا لا يجوز ولا يصح، لأنه- سبحانه- لو أراد منا ذلك ما خلق الأسباب، وما أمرنا بالأخذ بها، ولئن كانت الأسباب لا قيمة لها بدون الله، إلا أنها تُعد بمثابة الستار الذي يتنزل عليه أمر الله وقدره، وعلى المسلم أن يقيم هذا الستار بالقدر المتيسر والمتاح أمامه.

ومع أخذ المسلم بالأسباب، وإقامته لهذا الستار إلا أنه لا ينبغي عليه الركون إليها، أو الاعتماد عليها في حصول النتائج، وإلا تحول هذا الستار إلى جدار يحجبه عن الله.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يوجه صاحب الناقة إلى ربطها -كسبب لعدم شرودها- ويوجهه كذلك إلى التوكل على الله في إنجاح هذا السبب فقال له: «اعقلها وتوكل» (٦).

وتأمل ما حدث للصحابة وقد نفد ماؤهم وأرادوا الوضوء والشرب فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بذلك .. فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟


(١) صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (١٨٤٦).
(٢) أخرجه البخاري.
(٣) المعجزة القرآنية لمحمد حسن هيتو ص٤٠ نقلا عن سير أعلام النبلاء.
(٤) السيرة النبوية لعلي الصلابي ٢/ ٤١٨.
(٥) حياة الصحابة ١/ ٣٨٨، ٣٨٩.
(٦) حسن، رواه الترمذي عن أنس، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح (١٠٦٨).

<<  <   >  >>