للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلو حشد المرء ما يمكن حشده من أسباب فلن يصل إلى النتيجة المتوقعة لها إلا إذا أَذِن الله وفتح له خزائن ذلك {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: ١١١].

وعندما قام نبي الله يوسف- عليه السلام- بتدبر أمر الحيلة التي من خلالها كان ينوي استبقاء أخيه معه، ونجح في ذلك، نجد التعقيب القرآني يُذكِّر بحقيقة الأمر وبأن ما حدث فإنما حدث بإذن الله ومشيئته وإمداده حتى يرسخ المعنى في الأذهان {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: ٧٦].

[العجز والفقر الذاتي]

والمتأمل لسير الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم أكمل البشر، نجد أنهم كانوا يعيشون في حقيقة عجزهم وفقرهم الذاتي والمطلق لله عز وجل، فهذا شعيب- عليه السلام- يقر بها عندما يخيره قومه بين العودة إلى ملتهم أو إخراجه ومن معه من قريتهم، فيرد عليهم قائلاً: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ - قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: ٨٨، ٨٩].

وبمثل هذا أجاب إبراهيم- عليه السلام- قومه في حواره معهم: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}

[الأنعام: ٨٠].

وكذلك كان حال موسى- عليه السلام- عندما أخذته ومن معه الرجفة {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: ١٥٥].

وكان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يعيش بكيانه كلّه في هذه الحقيقة .. فهذا عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئاً، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال:

«اللهم لا تكلهم إلىَّ فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» (١).

[أين حرية الاختيار؟!]

فإن قلت: وأين حرية الاختيار؟ وأين الإرادة الحرة التي أتاحها الله للإنسان والتي على أساسها يترتب الثواب والعقاب؟!

نعم، أتاح الله عز وجل للإنسان حرية الاختيار (٢)، إلا أن الذي يترجم ويُفعِّل اختياراته هو الله عز وجل {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: ١٠٢]، بمعني أن العبد له أن يختار ما يريد فعله بإرادته الحرة، ولكن الذي يمكنه من ترجمة هذا الاختيار إلى أرض الواقع هو الله عز وجل.

* * *


(١) أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم.
(٢) (*) أتاح الله عز وجل للإنسان حرية الاختيار في الأمور التي سيحاسبه عليها والتي سماها العلماء (الإرادة الشرعية)، أما الأمور التي ليس للإنسان فيها اختيار كشكله، وطوله، وجنسه، ورزقه .. فسميت (الإرادة الكونية).

<<  <   >  >>