لقد فاق هذا العدوان البربري كل وصف، وخلَّف من الدمار ما لا يمكن أن تصوغه العبارات، وابتُلى أهل غزة وزلزلوا زلزالاً شديداً.
ارتفعت أكف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالدعاء والإلحاح على الله بأن ينصر المجاهدين الصامدين في غزة، وأن يربط على قلوب ساكنيها، وأن يدحر اليهود وينكس رايتهم، ويرد كيدهم في نحورهم .. ومع الدعاء خرج الآلاف من أبناء الأمة في مسيرات حاشدة تندد بالوحشية الصهيونية وتطالب، وتطالب ..
وعندما فُتحت أبواب التبرع لإغاثة غزة، سارع الكثير من المسلمين ببذل أموالهم، آملين أن يكون ذلك سببا في تخفيف معاناة إخوانهم هناك وأن يرفع عنهم حرج التقاعس، وواجب النصرة.
ومع أهمية هذا كله في تخفيف آثار ما حدث، إلا أن السؤال الذي يتردد في نفوس الكثيرين هو: هل من نهاية لهذه المأساة؟ وماذا نفعل كيلا تتكرر؟
إن التضحية العظيمة التي يُقدمها أهل غزة البواسل، وتفاعل مشاعر الأمة بأسرها مع هذا الحدث من مشاعر محتقنة بالضيق والكراهية لليهود، وفي الوقت نفسه مشاعر فياضة بالاستبشار والفرح بأي نصر تحرزه المقاومة، وما صاحب ذلك من دعاء، وتبرع بالمال والدم، ومسيرات حاشدة جابت جنبات المعمورة، إلا أن هذا كله -مع أهميته- لا يكفي لوقف المأساة التى بدأت منذ عقود.
لابد من نظرة شاملة وتحليل دقيق للحدث، وبخاصة أن الأمة قد مر عليها مآس متشابهة في العقود الماضية، في فلسطين والعراق والبوسنة والهرسك وكوسوفو وأفغانستان والصومال. لابد من نظرة شاملة تقوم بتحليل ما وراء تلك الأحداث .. لعل ذلك يُفيد في تحديد مكامن الداء ومن ثم معرفة الدواء.
* * * *
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}
إن أي تحليل للأحداث التى تمر بالأمة لابد وأن ينطلق من الحقيقة التي تقوم عليها الحياة، وهي أن هذا الكون له رب قائم عليه .. يديره ويسيره، فما من شيء يحدث في هذه الأرض إلا وهو يحدث بعلم الله وبإذنه ومشيئته {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:٥]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} ... [الأنعام:١١٣].
فالكون كله قائم بالله، السماء والأرض .. السحاب والجبال .. الماء والهواء .. النبات والدواب ..
حركة البشر جميعاً، من يقظة ونوم، وقيام وقعود، كلام وصمت وضحك وبكاء .. كل ذلك يحدث بعلم الله وإذنه ومشيئته، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:٢٢]. {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:٢٥].
[لا إكراه على الإيمان]
عندما خلق الله عز وجل الإنسان وأسكنه الأرض، فقد خلقه ليسعده لا ليشقيه .. فهو سبحانه يريد الخير للناس جميعا. {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:٧].
ويحب لهم جميعا أن يدخلوا الجنة. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٢١].
لقد أعد الله عز وجل الجنة داراً للإقامة الأبدية والنعيم المقيم، وجعل ثمن دخول هذه الجنة النجاح في اختبار الدنيا .. اختبار العبودية له -سبحانه- بالغيب في ظل وجود الإرادة الحرة، وحرية الاختيار التي أتاحها الله للإنسان .. هذه الحرية جعلت الكثير من الناس يسير في طريق الضلالة والكفر، في ظل وجود نفس أمارة بالسوء، وشيطان يوسوس، ودنيا تتزين للناظرين، ولأنه سبحانه أعطى للإنسان حرية الإختيار لذلك فهو لم يكره أحداً على الإيمان به {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس٩٩].
ومع ذلك؛ فلأنه سبحانه يحب الخير للناس جميعاً فلقد أرسل إليهم رسالات تبشرهم بالجنة وترسم لهم طريق الوصول إليها، وتحذرهم من النار وتدلهم على كيفية اتقائها.
فالرسالات التي حملها رسل الله للبشر لها وظيفة بالغة الأهمية في تحذير الناس وإنقاذهم من دخول النار {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].
* * * *